يواجه النظام الرأسمالي انتقادات
ليس من معارضيه الأيديولوجيين، بل
من قادته. ويحاول هؤلاء القادة أن
يصلحوا ما أفسد الدهر، بإجراءات
لا يبدو أنها كافية لتحقيق إنقاذ
سريع.
والأزمة تبدو من الشمول بحيث أنها
تعد، ليس بتغييرات في آليات عمل
النظام الرأسمالي، بل بأفكاره
وثقافته وفلسفته.
ونقد الفلسفة قد يتطلب بعض الوقت،
إلا انه آت.
بعض الانتقادات المتداولة اليوم
لم يوفر البنية الأساسية لطبيعة
النظام الرأسمالي باعتباره نظاما
يقوم على الجمع بين المغامرة
والإسراف.
انتقادات تفصيلية أخرى تلقي
باللائمة على النظام المصرفي الذي
يسعى الى تحقيق الربح عن طريق
التوسع المفرط في منح القروض،
والمضاربات في الأسواق، والارتفاع
غير المتوازن لأسعار العقارات،
والاستهلاك المفرط القائم على
أوهام رخاء دائم.
والمعالجات التي يقترحها
المنتقدون، تقدم إيحاءات، قائمة
بذاتها، عن طبيعة الأزمة. فالنظام
الذي يقوم بالإقراض على أساس
ضمانات (تُستمد من قيمة "الأصول
والموجودات") انهار ليس لان بعض
صغار المقترضين لم يعودوا قادرين
على خدمة ديونهم
(الأقساط+الفوائد)، وليس لأن
"الأصول" (المنازل) التي أسندوا
اقتراضهم عليها انخفضت قيمتها
(فهذا جزء بسيط من المشكلة)، بل
لأن البنوك نفسها لم تعد تثق
ببعضها البعض، فتوقفت عن إقراض
احدها الآخر لتسيير عملياتها
اليومية. فاختنق النظام برمته.
والسبب هو ان المليارات التي
تتداولها البنوك فيما بينها لم
تعد تستند الى ضمانات من "موجودات
وأصول". ببساطة لأن الكثير من هذه
"الموجودات والأصول" ظهر انه هش
وغير مضمون ويستحيل الاستمرار في
تمويله.
كيف حصل ذلك؟
"قيمة" كل بنك (كما كل شركة أخرى)
لا تقتصر على ما يملكه من
"عقارات" (أصول مادية)، وإنما على
ما يحققه من أرباح سنوية. هذه
الأرباح (لنقل، مضروبة في 10 على
الأقل، الى جانب الأصول المادية)
هي ما يحدد "قيمة" البنك. وعندما
تبلغ "القيمة" السوقية للبنك، 50
مليار دولار مثلا، فليس كثيرا ان
يجد نفسه قادرا على اقتراض وإقراض
عدة مليارات كل أسبوع.
الأرباح بمعناها التقليدي كانت
تأتي من مصدرين رئيسيين: فوائد
القروض، وعوائد استخدام المدخرات
في عمليات بيع وشراء الأصول. ولكن
بنوك اليوم لم تعد تعتمد في
أرباحها على هذا المصدر التقليدي.
صارت المضاربات، بالأسهم والسندات
والسلع والعملات، وتمويل عمليات
الدمج والتفكيك هي المصدر الأهم
للأرباح. وبالتالي.. العنصر
المقوم الأهم لـ"القيمة".
بكلام آخر، فان "عمليات" البنك هي
المصدر الأهم لتحديد قيمته، لا
أصوله ولا حتى مدخراته.
فإذا ما ظهر أن هذه "العمليات"
تنطوي على خسائر غير محدودة،
فماذا يبقى من "القيمة"؟
قبل وقت غير بعيد من العام الماضي
ظهر أن هناك ثقبا أسود كبيرا في
قيمة "الأصول" المتعلقة بالرهون
العقارية التي كانت شركات مثل
"فاني ماي" و"فريدي ماك" تبيعها
على هيئة سندات. وهذا ما صنع ما
يسمى "أزمة الرهون". فلم تعد
البنوك تعرف أي منها خسر في صفقات
تلك السندات، ولا كم هو حجم
الخسارة، ولا ما إذا كان هذا
البنك أو ذاك سيعلن إفلاسه
بسببها. الثقة انهارت. وتوقف
الإقراض. وهذا ما صنع "أزمة
الإقراض" الراهنة. ومع هذا
التوقف، انهارت عمليات كثيرة. وهو
ما ينتظر أن يخفض أرباح البنوك
وغيرها من الشركات بصورة جذرية،
لتنخفض معها "قيمتها" السوقية،
ومن ثم قدرتها الضمنية على طلب
قروض لتمويل عملياتها.
الشيء الجوهري، في كل هذا، هو أن
الخروج عن الإطار التقليدي
للأرباح سمح، على امتداد دهر
طويل، بجعل النمو في الأرباح
والتوسع في العمليات، خارجا تماما
عن مستويات النمو الطبيعية. ولم
تعد ميادين النمو محصورة في نطاق
عمليات محدودة، ولا مكان محدود.
الرأسمالية تحولت، شيئا فشيئا، من
رأسمالية شرهة (كما كان حالها
دائما)، الى رأسمالية تبحث عن ربح
سريع وخارق للمألوف، وخارج تماما
عن السياق الطبيعي للنمو؛
رأسمالية تنهب على نطاق أوسع
لتضمن تفوقا شاملا وهيمنة مطلقة؛
بل رأسمالية نازية لم يعد يهمها
أن يدخل أي جزء من العالم في فرن
غاز، أو أن تقع الكرة الأرضية
برمتها ضحية احتباس حراري شامل،
طالما يتحقق لها ذلك المستوى
الخارق من "النمو" و"التوسع"
الدائم.
وكان من الضروري لتحقيق هذا
النمو، أن يعتمد "النظام" على
"عمليات" أكبر فأكبر، وصولا الى
كل سياسات الابتزاز والهيمنة وفرض
الشروط على الأسواق الدولية. بل
وعاد الأمر الى الغزو نفسه لكي
يكون مصدرا لتوسيع الفرص
والأسواق.
"عمليات" البنتاغون لم تكن بعيدة
أبدا عن أي من "عمليات" البنوك أو
شركات النفط أو شركات "بيع الرهون
العقارية". في الواقع، فكل هذه
العمليات، إنما تدور في نطاق
عملية تمويل واستدانة واحدة.
يجدر التساؤل: من دون "عمليات"
البنتاغون، كيف كان يمكن لشركات
النفط الأميركية أن تحلم بالحصول
على نصف ثروة العراق النفطية؟
وهل كان يمكن للبنوك الأميركية أو
الأوروبية ان تتأخر في إيجاد
سبيل، من سلسلة عمليات موازية،
لـ"تمويل" غزو من هذا الحجم؟
لعشرات المرات، ظل الرئيس
الأميركي جورج بوش يردد أن
"الحصة" كبيرة في العراق ولا يجب
التخلي عنها. وكان على حق.
فـ"الحصة" المادية كبيرة فعلا.
وهي لم تكن في الواقع "حصة" في
مجرد الأمن او "المصالح"
الإستراتيجية، بل "حصة" مباشرة في
النفط والغاز. ومن أجل "اقتسامها"
تم تجنيد مئات الآلاف من الجنود
والمرتزقة والمليشيات الطائفية.
وهي حصة يمكن قراءتها في العقود
التي توقعها (تدريجيا) حكومة
المليشيات الطائفية في بغداد مع
شركات النفط الأميركية
والأوروبية، والتي قُتل بسببها كل
الذين قتلوا في المجازر الجماعية
التي دارت رحاها في العراق على
امتداد السنوات الست الماضية.
وهذا يكشف عن وجه آخر للأزمة،
فحيث بلغ الضحايا نحو مليون ونصف
المليون قتيل، وحيث تم تهجير أكثر
من 5 ملايين إنسان، فقد كان من
الواضح أن "الحصة" تناظر محرقة
جماعية للبشر، من أبشع ما تم
ارتكابه منذ الحرب العالمية
الثانية.
ووجه الأزمة الجديد، هو أن
نازيتها المعاصرة أكثر شمولية من
نازية الماضي.
الكل يرى المحرقة، ولكنها محرقة
لا تصمت عنها الحكومات المتورطة،
ولا تنشغل عنها المنظمات الدولية
لحقوق الإنسان ببدائل تنطوي على
نفاق شديد (مثل التركيز على أعمال
الإبادة المزعومة في دارفور،
لنسيان أعمال الإبادة في العراق)،
بل تتجاهلها الشعوب الغربية
نفسها، وذلك في واحدة من أبشع صور
التواطؤ مع الجريمة في التاريخ.
لماذا؟
لأن الكل يعرف أن لديه "حصة"، وان
نموه الاقتصادي ورخاءه يعتمدان
بالدرجة الرئيسية على نجاح
الشركات الرأسمالية بالتوسع في
أعمال النهب. ولأن الكل يراهن على
قدرة حكومته على ابتزاز الضعفاء
لكي تُملي عليهم عقودا لشراء
أسلحة، أو لبناء مفاعلات نووية،
أو لقبول اتفاقات تجارة غير
عادلة، أو لفرض إتاوات مقابل
الصمت عن انتهاكات حقوق الإنسان،
أو التجارة بهذه الحقوق مقابل
عقود.
النمو في الأرباح، صار يتطلب سحقا
شاملا للآخرين.
هذا هو المقوّم الأساسي الوحيد
لـ"القيمة" في النظام الرأسمالي
المعاصر، وهذا ما يشعر به كل فرد
في الغرب.
نازية السحق الجماعي، بالأحرى،
صارت هي السبب الذي يوفر الوظائف
لعشرات الملايين من الأيدي
العاملة في الغرب الذين يعتمدون
في عيشهم على شركات تخرج أرباحها
عن السياق التقليدي المألوف
للنمو.
ومثلما كان هتلر يجند الملايين من
"المدنيين" الألمان في مجازره،
يجند الغرب اليوم الملايين من
عماله وموظفيه وخبرائه ومدراء
مؤسساته، دع عنك جنوده ومرتزقته،
في أعمال القتل والإبادة الوحشية
التي تنفذها جيوشه وشركاته من اجل
الفوز بفرص عمل وعقود وأرباح
خارقة للمألوف.
ولكي يحقق النظام أرباحا خارجة عن
المألوف، فقد كان من "الطبيعي" أن
تكون الجريمة خارقة للمألوف. وأن
تكون التغطية عليها، خارقة
للمألوف، وأن يكون التواطؤ معها
خارقا للمألوف.
وهكذا، عاد تمويل الحروب ليكون
مصدرا لا مفر منه للنمو. ومثلما
تراهن الحكومات على عوائد الحروب،
تضع الشركات الكبرى رهانها على
المغامرة نفسها، ومعها ملايين
الأيدي العاملة والموظفين.
ولأنها حرب الرأسمالية، كنظام
دولي شامل، فقد كان من السهل أن
تجد تمويلا، على هيئة سندات
وديون، من كل مكان يتطلع الى
الفوز بـ"حصة" في سوق واحد ومفتوح
وتؤثر سلعه وتداولاته على بعضها
بعضا.
في أحد آخر الانتقادات للنظام
الرأسمالي، كتب فولفغانغ شويبلي
وزير الداخلية الألماني مقالا
نشرته "دير شبيغل" الاثنين يقول
"ان خطرا سياسيا قد ينتج عن
الأزمة المالية الدولية، كما كان
الحال بعد أزمة عام 1929 ووصول
أدولف هتلر الى السلطة".
ويوضح شويبلي "تعلمنا من الأزمة
الاقتصادية العالمية في
العشرينيات أن تهديدا غير معقول
على مجمل المجتمع قد ينتح من أزمة
اقتصادية". ويضيف "أن نتائج أزمة
الثلاثينات من القرن العشرين كانت
أدولف هتلر، وبطريقة غير مباشرة
الحرب العالمية الثانية و(معتقل)
أوشفيتز".
وشوبيلي على حق. ولكن بالمقلوب.
هتلر الماضي كان بالفعل نتاج
أزمة. ولكن الأزمة الراهنة هي
نتاج هتلر جديد.
الحقيقة هي أن هتلر موجود. ويمكن
رؤيته في السياسات التي تمارسها
الولايات المتحدة في كل مكان في
العالم، وليس في معتقل أوشفيتز
(العراق) وحده.
وهكذا، فبدلا من أن يكون هتلر هو
نتاج الأزمة، فانه في الواقع،
سببها.
بكلام آخر، هتلر الثلاثينات كان
بحق ثمرة أزمة طاحنة في النظام
الرأسمالي. أما الأزمة اليوم فهي،
على العكس، ثمرة هتلر الرأسمالية
الوحشية الراهنة. وأوشفيتز موجود
بالفعل، وما يزال يموت البشر فيه
بالفقر والكوليرا ونقص الخدمات
وأعمال القتل اليومية. وهو يضم
بالفعل مئات الآلاف من المعتقلين
من دون محاكمة ويتعرضون فيه لكل
أعمال التعذيب.
أم أن السيد شوبيلي لم ير ولم
يسمع بما يفعله أصحاب أوشفيتز
الجديد؟
زعماء مثل الرئيس جورج بوش وتوني
بلير وغوردن براون ونيكولا
ساركوزي وجون هاوارد، قد يحملون
أسماء مختلفة، إلا أنهم يمثلون
هتلر وحشية واحدة.
وهم ليسوا وحدهم. فالى جانبهم يقف
ملايين الجنود و"المدنيين"
والمرتزقة ومدراء الشركات الكبرى
الذين ينتظرون الحصول على "حصة"
من "الأرباح".
وهي بالأحرى، "حصة" من الدم
والعذاب والموت والجريمة التي
يشارك فيها، ويتواطأ معها،
الجميع.
أفهل تعاني الرأسمالية اليوم
مأزقا؟
المأزق، على أي حال، لا يكمن في
قدرة هذه الرأسمالية على القتل.
السبب الحقيقي للمأزق هو أن
الضحايا ما يزالون يقاومون، وما
يزالون يكبّدون "النظام" خسائر
تفوق قدرته على الاستيعاب،
ويجبرونه على أن يزيد طين الديون
بلّة، بالمزيد من الديون. حتى
انهارت الثقة، بانهيار قدرة
النازية العالمية الجديدة على
المضي قدما في تمويل أحلام
شركاتها بالحصول على "حصة" تضمن
لها نموا غير مألوف.
البنوك نفسها وقعت تحت طائلة
العجز عن تمويل المزيد من
"عمليات" البنتاغون. ومع انكشاف
الثقب الأسود في "رهونها
العقارية"، ومع بلوغ الديون
الأميركية حدا خرافيا (يتجاوز 10
تريليون دولار)، فقد أصبح من
الطبيعي لها ان تبحث عن سبيل
لحماية نفسها بالكف عن "توسيع
المغامرة".
الأزمة التي تواجه الرأسمالية
اليوم لا تكمن في قدرتها على
القتل، بل في عجز القتل وفشله في
تمويل النمو. ها هنا تكمن الأزمة.
والحال، فلو كان القتل في العراق
وفي أفغانستان ناجعا، لما كنا
رأينا أي أزمة.
البعوضة تعيش على مص الدماء.
ولكنها بالدماء تموت. هذا ما
يحصل. وهذه أزمة دهر، أعقد وأكثر
جذرية من أن يُصلح أحوالها عطارو
النظام نفسه.
مطلوب فلسفة جديدة. وهذه لن تنضج
قبل بعض الوقت. إلا انه آت، ليس
بإصلاحات فارغة، وإنما بانتصار
الضحايا على الجلادين. |