لم يثر برنامج نووي في التاريخ
العلمي والعسكري في العالم صراعا
وجدلا مثل البرنامج النووي
الايراني؛ ذلك يعود لأسباب عدة:
أهمها سرية وغموض أهدافه من جهة،
وشفافية الاعلان عن تقدمه وخطوات
تنفيذه ومراحل اكتماله كما يبدو
ظاهريا. وربما سيكون هذا البرنامج
بعيدا عن اهتمامات الاعلام
والمراقبين لولا علاقة هذا
البرنامج بالرفض الاسرائيلي
والامريكي المعلن له، وخوف بلدان
الخليج العربي والعراق وافعانستان
وروسيا ايضا من تطوراته
المستقبلية.
لانه يضع ايران على عتبة هامة
من ان تكون دولة عظمى يحسب لها
الف حساب نظرا لتحكمها بمواقع
مرور الطاقة النفطية من مضيق هرمز
وامكانياتها الاستراتيجية بخلق
قوى من الحلفاء لها بدء من حكام
العراق المحتل، مرورا بلبنان"حزب
الله"، وسوريا وفلسطين"منظمات
الرفض الفلسطيني" وافغانستان.
لقد لعبت المناورة والدبلوماسية
والتحالفات الايرانية دورا هاما
وذكيا لحماية المشروع الصاروخي
والنووي الايراني لتأمين وصوله
الى أهدافه المرسومة. ان اكثر من
سؤال يطرح حول حقيقة وآفاق
ومستقبل هذا المشروع وما هي
العوائق التي تمنع الادارة
الامريكية وحليفتها اسرائيل من
قصفه وتدميره. وهل القضية فعلا
تتعلق بوقف تخصيب اليورانيوم ام
ان المشروع قد تجاوز مراحل توقيفه
ليعلن الرئيس الايراني احمدي نجاد
في اكثر من مرة " ان ايران قد
انضمت الى دول النادي النووي
العالمي الثمان" رغم معارضة
الولايات المتحدة واسرائيل.
وفي رأينا قطعا ان القضية لا تكمن
في امكانيات تخصيب اليورانيوم من
قبل ايران التي اعلنت امس انها
وضعت اكثر من 6000 من اجهزة الطرد
المركزي بهدف تخصيب وقودها النووي
الذي تحتاجه لبرنامجها الموصوف
ايرانيا بـ "السلمي".واذا كان
السلاح النووي يعتمد اساسا على
قدرة الدولة من توفير اليورانيوم
المخصب او البلوتونيوم فان ايران
وفق الملاحظات وتقارير المراقبين
وبعض خبراء وكالة الطاقة الذرية
لازالت بعيدة عن امكانية انتاج
السلاح النووي في القريب العاجل.
وبرأينا ان هذه تقديرات ساذجة حتى
وان سربتها بقصد مصادر سياسية
واعلامية من الولايات المتحدة لكي
تربح عامل الوقت وتفاوض ايران، لا
على وقف برنامج التخصيب كما يشاع
اعلاميا، بل لتصفية حقيقية
لسلاحها النووي الموجود فعلا،
والاكتفاء بمفاعلات لانتاج الطاقة
الكهرونووية باشراف ومراقبة
الوكالة الدولية للطاقة النووية
مع تعهد وقناعة الامريكيين بقبول
ايران شريكا استراتيجيا مقبولا في
المنطقة سواء في العراق او الخليج
العربي او افغانستان.
لابد من القول ان ايران تملك فعلا
منشئآت نووية متكاملة تمكنها ان
تكون دولة نووية وتحقيق طموحاتها
القومية. والمشروع النووي
الايراني بدأ منذ ستينيات القرن
الماضي في عهد الشاه محمد رضا
بهلوي ، ورغم بعض توقفاته او
تأخره لكن الايرانيين واصلوا
تطويره واستثمروا به عشرات
المليارات من الدولارات منذ عام
1967 بوضع خطة على اساس بناء 23
مفاعل نووي تغطي عموم مساحة
البلاد الايرانية ولكلفة تبلغ 30
مليار دولار وهي مفاعلات كانت
تستهدف انتاج البلوتونيوم اكثر
منها الحصول على الطاقة التي يمكن
توفيرها باستخدام البترول. في عام
1974 انشأت منظمة الطاقة الذلاية
الايرانية والتي تعرف اختصارا
AEOI التي اخذت على عاتقها تنفيذ
خطة البرنامج النووي
الايراني.وتعاقدت من اجل تنفيذ
مفردات حلقاته مع شركات المانية
وامريكية وفرنسية وكانت اهداف
الشاه تتجه نحو بناء محطات طاقة
نووية وتوفير امكانيات الحصول على
السلاح النووي. وفي سنوات(1974 ـ
1978) تمكن الايرانيون من اجراء
تجارب علىى البلوتونيوم المنتزع
من الوقود المستهلك باستخدام
الطرق الكيميائية.
وهذه الحقيقة صرح بها الدكتور
أكبر إعتماد وهو المؤسس والرئيس
الاول لمنظمة الطاقة الذرية
الايرانية خلال تلك الفترة. ومن
المعروف هنا ان الاستخدام الوحيد
للبلوتونيوم هو صنع القنابل
النووية. وفي المرحلة الثانية
لبرنامج الايراني التي سميت
"مرحلة التوقف" بعد ان عاد
الخميني والغى صفقات البرنامج
النووي والاسلحة مع الولايات
المتحدة وفرنسا والمانيا واليابان
وازدرى الخميني علانية علوم الغرب
مما اوقف المشروع النووي مع
الغرب. منها مشاريع مدنية كبرى
بقيمة 34 مليار دولار من ضمنها
بناء اربعة مفاعلات للطاقة
النووية. وفي السنوات الاولى من
الحكم الجمهوري الاسلامي استغنت
ايران عن برنامجها النووي الذي
بدأه الشاه ورغم الاعلان عن
التوقف ظل هناك اكثر من 400 خبير
وفني نووي ايراني في ممارسة
اعمالهم وابقاء 13 خبير نووي في
محطة بو شهر النووية لمعنى انها
لم تسرح خبرائها عن العمل واستمرت
بمطالبة الشركات ومنها شركة
"سيمنس" الالمانية بتسليم الاجهزة
والمعدات التي احتجزت خارج ايران.
ولم تزل هذه القضية معلقة حتى
الان وايران تطالب تعويضا قدره
5,4 ملسار دولار كتعويض. ان كل
المؤشرات تبين ان الايرانيين
توجهوا من جديد لاستعادة بعث
مشروعهم النووي وخاصة في عهد
الرئيس الايراني هاشمي رافسنجاني
حيث افتتحت ايران مركز اصفهان
للبحوث النووية بمساعدة فرنسية
واتجهت ايران الى تنويع تعاونها
النووي مع عدة دول غير غربية
كالصين وباكستان وفي 1987 وافقت
الارحنتين على تدريب الفنيين
الايرانيين كما حصلت ايران على
يورانيوم بقيمة 5,5 مليون دولار
واعادت علاقتها مع عدد من الشركات
والخبرات الالمانية. ولم تتوقف عن
نشاطها حتى بعد تعرض وتخريب
منشئآتها النووية بواسطة القصف
الجوي العراقي لها لاكثر من ستة
مرات مابين سنوات (1984 ـ 1988 )
الحقت بها اضرارا جسيمة والتي
قدرت ما بين (2,9 -4,6) مليار
دولار حسب معاينة وتقدير الخبراء
الالمان.
في سنة 1987 اجرت ايران
مفاوضات مع شركات ارجنتينيةـ
اسبانية لاكمال بناء محطة بوشهر
النووية وبعد انتهاء الحرب في
1988 استفادت ايران من دروسها
وحسمت موقفها التسلحي نحو اعطاء
الاولوية للسلاح النووي مع تطوير
قدراتها الصاروخية فكان لها ما
ارادت. ما بين (1991 ـ
2001)استكملت بنيتها التحتية
وتنويع مصادر التكنولوجيا ومنها
التوجه الى الصين التي حصلت منها
عام 2001 على 1000 كغ من غاز
هكسافلوريد اليورانيوم، مع 400 كغ
من مادة تترافلوريد اليورانيوم
فضلا عن 400 كغ من مادة ديوكسيد
اليورانيوم من دون ان تبلغ
الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ان التوقعات الامريكية ان
ايران حصلت من الصين الكثير من
المعامل والخبرات عن طريق
اتفاقيات سرية ومنها علنية
وتسارعت الاحداث حتى وصلت ايران
الى حالة الاعلان عن نجاحها في
تجارب تخصيب اليورانيوم وبناء
منظومات الطرد المركزي في جامعة
الشريف وسعت الى الحصول على
اسطوانات الفلورين والمغانط
اللتين تستخدمان في اجهزة الطرد
المركزي؟. ولكن واقع الحال يشير
الى وصول اكثر من 100 خبير نووي
روسي الى موقع بوشهر في أوت من
عام 1992. فضلا عن تخرج مئات
التقنيين الايرانيين من المعاهد
الايرانية ومن الذين استكملوا
تدريبهم في الخارج. وتصاعدت اخبار
الاتفاقيات والكشف عن المفاعلات
وبرامجها وطاقاتها المرحلية
والمستقبلية. قم ننالت الاخبار عن
الحملة الامريكية على ايران لوقف
مشروعها النووي وخاصة الموقف من
تخصيب اليورانيوم.
ان قناعتنا الراسخة ان ايران ليست
بتلك الحاجة الملحة لتخصيب عدد من
الكيلوغرامات من اليورانيوم، فقد
كانت ايران، اضافة الى طموحها
وفطنتها، محظية عندما امتلكت
حدودا مع جمهوريات الاتحاد
السوفيتي الذي انهار في لحظة
تاريخية ليضع اقدام ايران على
بوابة النادي النووي دولة
ثامنةعلى الشكل التالي.
تعتبر الدول النووية الكبرى ان
تسيب وتسرب المواد النووية
الصالحة للاستخدام العسكري تهديدا
خطرا على امنها القومي وعلى
العالم. لكن هذا الخطر أصبح
محتملا جدا بعد سقوط الاتحاد
السوفيتي وانفراط عقد الدول التي
كانت منظمة الى جمهوريات الاتحاد
السوفيتي. لذا سارعت الولايات
المتحدة وجمهورية روسيا الاتحادية
في عهد الرئيس الاسبق يلتسين الى
توقيع معاهدات خفض التسلح النووي،
وتشديد مراقبة ومنع تسرب وانتقال
المواد والاجهزة النووية الى
آخرين.
ومن الطبع ان تستغل الادارة
الامريكية المصاعب الاقتصادية
لروسيا لتملي عليها الكثير من
شروط الاذلال والحط من كبريائها
وقوتها كدولة عظمى. ومنها التوصل
الى اتفاق يقضي ان تتخلص كل من
الدولتين من 50 طن من البلوتونيوم
الموجود في الترسانات النووية
للدولتين بتفكيك عدد من الرؤوس
في الاسلحة النووية كالصواريخ
النووية العابرة للقارات.
المعروف ان فائضا من 50 طن من
البلوتونيوم عند روسيا كان كافيا
لانتاج حوالي 10000 سلاح نووي
جديد.
وان أسوأ سيناريو قد يكون فيه
الطن الواحد من البلوتونيوم يكفي
لصنع 200 قنبلة نووية. وإذا ما
سقطت كمية من هذا البلوتونيوم في
الايدي الخطأ أو الجهات المترصدة
لها فانها تكفي لانتاج قنابل
نووية، حيث يتطلب الأمر فقط الى
أقل من 6 كيلو غرام من
البلوتونيوم الصالح لصنع قنبلة
نووية بدائية كتلك القنبلة
النووية الامريكية التي أسقطت فوق
نياغازاكي في أوت من عام 1945 بعد
نهاية الحرب واعلان اليابان
والمانيا نيتهما على الاستسلام
الكامل غير المشروط.
رافق سقوط الاتحاد السوفيتي وحل
الجيش الاحمر اعادة الكثير من
الوحدات العسكرية النووية
السوفياتية باسلحتها الى روسيا
وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي
وساد الانسحاب فوضى كبيرة وردود
فعل غاضبة من قبل العلماء والضباط
وكبار جنرالات الجيش الاحمر.
وكانت أسوأ الاحوال النفسية هو
مشهد حالة تفكيك الوحدات النووية
واحالة مئات الالوف من العسكريين
والخبراء والعلماء الى البطالة أو
الى التقاعد. لقد وصلت الاهانة
والمجاعة بعدد كبير من العلماء
والخبراء النووين السوفيت ان
طلبوا مرتبات متواضعة تكفل مجرد
العيش البسيط لعوائلهم وحمايتهم
من الفقر. وعندما تصدقت الهيئات
الامريكية على بعضهم بحفنة من
الدولارات لاجل دوام البقاء على
الحياة كان ذلك المشهد الدرامي
لايوصف بمثل هذه العجالة.
وعندما جاءت قرارات تفكيك الاسلحة
النووية فعلا، توصلت المافيات
الروسية القديمة منها والجديدة
كالاعشاب البرية والطفيليات
الضارة حيث ظهرت هنا وهناك سواء
في روسيا أومن مختلف الاقطار
والقوميات السوفيتية وحاولت
الوصول الى اهم كنوز البلاد
المنهوبة ومنها "اليورانيوم
المخصب" والبلوتونيوم الذي يمكن
تهريبه وبيعه الى الخارج.
وفي اثناء عمليات التفكيك والنقل
والخزن، تم اخفاء كميات معتبرة من
هذه المواد النووية. واستعد ضباط
كبار وتقنيون نوويون للمغامرة حتى
بأرواحهم لأجل سرقة وبيع ونقل هذه
المواد.
كان البعض يعتقد ان البلوتونيوم
الخام يعتبر مادة غير جذابة للصوص
او المغامرين لكن الدول والمافيات
العاملة في حقل تهريب الاسلحة
النووية، ومنها اسرائيل كانت ترصد
وتدفع مستحقات الشراء نقدا ومن
دون ضوابط او حتى مساومة طالما ان
الاسعار كانت تافهة قياسا لحجم
تكاليف استخلاص وفصل وتنقية
وتخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم.
.لكن المعدن كان للمهربين سهل
النقل والتهريب، وقد تم ذلك بطرق
بدائية منها في حقائب عادية وحتى
في اكياس الدقيق، رغم المخاطر
المترتبة على حياة مهربيه
وناقليه من ناحية التعريض
الاشعاعي والمخاطر الصحية.
وكما هو الحال مع البلوتونيوم،
كان فائض اليورانيوم المخصب
والمستودع في الرؤوس النووية
الحربية الروسية المفككة اصبح
هدفا لاثراء بعض الضباط وعصابات
المافيا الروسية، وخاصة المافيا
الشيشانية التي احكمت نشاطها حتى
على حياة العاصمة موسكو لما كان
عندها من نفوذ اجرامي ومالي.
كان اليورانيوم الروسي ضمن اهداف
التهريب، كونه المادة المستهدفة
والغالية للحصول للدول الطامحة
لاستخدامه للاغراض النووية
العسكرية ومنها ايران واسرائيل.
لقد توصلت الولايات المتحدة في
حينها الى الاتفاق مع ادارة
الرئيس الروسي بوريس يلتسين الى
تفكيك عددا كبيرا من الرؤوس
النووية ونقل ما مقداره 500 طن من
اليورانيوم العسكري المخصب بدرجة
عالية خلال فترة 15 سنة الى
مفاعلات الولايات المتحدة. هذه
الكمية من اليورانيوم تكفي الى
انتاج 8000 رأس نووي كتلك التي
اسقطت ، كأول قنبلة نووية على
مدينة هيروشيما اليابانية في أوت
من عام 1945. وهو يعادل ماتحتاجه
حوالي 20000 قنبلة نووية صغيرة.
ظلت الولايات المتحدة قلقة حيال
الفوضى التي عمت المجتمع السوفيتي
وانقسامه الى دول ضعيفة وهشة
اقتصاديا، ومنها تضم مخازن
للاسلحة النووية او قواعد عسكرية
نووية. ولاحظت الكثير من العيوب
في البرنامج الروسي لمتابعة
وحراسة تلك المواد النووية، اضافة
الى شيوع الفساد والخيانة وانتشار
المافيات ونفوذ الدول المجاورة
وخاصة ايران بحكم ارتباطها
الاسلامي مع الجمهوريات الاسلامية
السوفيتية السابقة. كما ان تغير
الولاءات والالتزامات الاخلاقية
السابقة للعلماء والخبراء السوفيت
للنظام الشيوعي، سواء من ابناء
الروس او من ابناء القوميات
الاخرى التي وجدت نفسها وحيدة
ومعزولة وخائفة ومحبطة من اوضاعها
السياسية الجديدة لذا كان نهب
المواد النووية لم يعد قضية امنية
او استراتيجية او حتى اخلاقية و
قد تم احيانا في السر وفي العلن،
ولا يستبعد ان الحدود الايرانية
المفتوحة على عدد من الجمهوريات
الاسلامية كانت بابا مفتوحا
للتهريب لمثل هذه المواد. وترى
الولايات المتحدة ان ما يوجد
حاليا من مواد نووية سائبة او
متسربة الى السوق النووية السوداء
بسبب الفوضى التي اعقبت سقوط
الاتحاد السوفيتي لهي تمثل خطرا
على الامن القومي للولايات
المتحدة اكثر واعظم كثيرا من
احتمالات صواريخ الدول التي تصفها
بالمارقة ومنها الصواريخ
الايرانية او الكورية.
من هنا يجب ان نرى تراجع اولويات
ادارة بوش لصالح اجراءات الوقاية
والتعاون السياسي والدبلوماسي
لاجل التقليل من التهديد النووي
المحتمل من سقوط كميات من
اليورانيوم المخصب او البلوتونيوم
الجاهز للتفجير بيد ايران وغيرها.
|