كثيرة هي المواضيع والقضايا التي
تتعلق بالمقاومة الوطنية
العراقية، وهي تتشعَّب إلى
المظاهر العسكرية والسياسية
والعقائدية والفكرية، كما تطول
شتى جوانب القضايا التحررية على
مستوى العراق والأمة العربية
والعالم بأسره. ولهذا السبب يجد
المرء نفسه أمام سيل من القضايا
التي من الواجب الكلام عنها حينما
يتعلق الأمر بهذه المقاومة.
فاضلت بين
أن أتكلم عن قضيتين:
-القضية السياسية الميدانية التي
تطل على واقع المقاومة الراهن بكل
ما يتعلق بواقعها الميداني وآفاق
مستقبلها.
-أم القضية الفكرية بكل ما يتعلق
بالجوانب التي تطرحها المقاومة
الشعبية المسلحة كاستراتيجية
تحررية قبل الاحتلال وأثناء
الاحتلال وما بعد التحرير.
عن ذلك يحسب البعض أنه من المبكر
استخلاص الدروس الفكرية من مقاومة
لا تزال تخوض المواجهة العسكرية
ضد الاحتلال، كما يحسبون أيضاً أن
نتائج البحث في هذا الزوايا أو
الكلام عنها ستكون أقرب إلى الدقة
فيما لو تم بحثها في المراحل
اللاحقة.
بين الكلام عن الواقع الراهن،
عسكرياً وسياسياً، واستشراف
المستقبل فكرياً، مساحة ضيقة،
لأنه لا يمكن لمقاومة ما أن تكون
منفصلة عن عمق فكري يصوِّب
اتجاهاتها، كما لا يمكن لها أن
تشكل مشروعاً سياسياً للمستقبل من
دون استراتيجية فكرية. وما يملأ
تلك المساحة هي المواجهة العسكرية
التي تعتبر المحور الجاذب لكل
الكلام عن الزوايا الأخرى. والتي
على صعيد سقفها الميداني تتحدد كل
المسائل.
عندما نقول إن المقاومة هي الممثل
الشرعي والوحيد للشعب العراقي،
نعني بذلك حقيقة واقعية وعملية
وهي أن القضية العراقية، تحت
الاحتلال، تحيا أو تموت بحياة أو
موت المقاومة المسلحة. وهذا يعني
أن مركز التأثير الأساسي هو العمل
المسلح، الماثل بزنود الأبطال
المقاتلين وإرادتهم. كما أن العمل
المسلح هو قطب الرحى لكل أنواع
المقاومة الأخرى، سياسية وإعلامية
وفكرية. ومن يريد استمرار
المقاومة عليه أن يعمل على إدامة
العمل المسلح بكل الوسائل والسبل.
وهنا أستذكر سؤالاً وجَّهه أحد
الحاضرين لي، في ندوة عقدت في
حزيران من العام 2003، قائلاً: في
ظل التعتيم السائد على بيانات
(قيادة المقاومة والتحرير)،
ورسائل الرئيس صدام حسين، كيف
يمكن للعالم أن يعرف أن هناك
مقاومة في العراق؟ فأجبته قائلاً،
وهو لا يزال يذكِّرني بذلك
الجواب: إن انتشار المقاومة
وتأثيرها على قوات الاحتلال ستفرض
نفسها على كل وسائل الإعلام بغض
النظر عن ارتباطها بالإعلام
المعادي أم عكسه.
من مركزية هذه الحقيقة نبني
قناعتنا، وعلى إدامة العمل
العسكري نراهن أساساً على إنتاج
متغيرات جديدة تُضاف إلى
المتغيرات الراهنة بحيث تدفع
المقاومة إلى المزيد من الضغط على
الاحتلال الأميركي الأم، وعلى كل
الاحتلالات الأخرى المقنَّعة.
لقد حافظت المقاومة العراقية على
سقف تأثيرها العسكري منذ البداية
من دون أن نقع في وهم تضليل
الإعلام المعادي، فقد تمَّ
تجهيلها في بداية الاحتلال لكنها
اخترقت حصار الإعلام بروائع
أدائها، وفرضت نفسها عليه،
واجتازت كل المحيطات لتحط رحالها
في الشارع الأميركي، وأنتم تعلمون
مدى التأثير الذي تركته على كل
زوايا الحياة في الولايات المتحدة
الأميركية.
أما الآن، وبعد أكثر من خمس سنوات
من انطلاقة المقاومة الشعبية
المسلحة، تستأنف إدارة جورج بوش
أسلوبها في التضليل على المقاومة
العراقية والتعتيم على دورها
وتأثيرها، ولكن اليوم على وقع
زوابع من إعلام قيامها بسلسلة
متواصلة من العمليات العسكرية
الأكثر وحشية التي لا يحار المرء
باكتشاف حقيقتها من أسمائها:
(صولة الفرسان)، (زئير الأسد)،
(إعادة فرض النظام)... وهو يوحي
بأنها استطاعت أن تعيد الأمن إلى
العراق.
ونحن إذا أردنا أن نعرف نتائجها
الفعلية، فلن يكون جوابنا أكثر من
إعادة التذكير بأخواتها التي
شنتها قوات الاحتلال تحت أسماء
أخرى، منذ أواخر العام 2003، كمثل
(المطرقة الحديدية)، و(الأفعى
المتسلقة)، التي وصلت أعدادها إلى
أكثر من مائة اسم، تبخرت أسماؤها
وأفعالها، واستمرت المقاومة ووصلت
أخبارها إلى الشارع الأميركي،
الذي كانت ردة فعله السريعة
بتسمية رئيس الولايات المتحدة
الأميركية وإدارته بالكذابين.
باستثناء ما يدفعه الشعب العراقي
من تضحيات جسام، وصلت إلى حدود من
المشاكل لا تنتهي، نرى أنه ما
أشبه (زئير الأسد) اليوم، بلسعات
(الأفعى المتسلقة) البارحة. تسمع
جعجعة المعارك ولا ترى طحينها.
فطاحونة الموت اللاحقة بجنود
الاحتلال، ونهر المليارات التي
تتسرب من ميزانية الولايات
المتحدة الأميركية، لا تزالا
الكابوس الذي يؤرق جفون الشارع
الأميركي، وتحفزه على الإصرار على
إعادة أبنائهم إلى أحضانهم.
وهنا يتبادر إلى ذهننا التساؤل
التالي: ما دام الواقع على ما
قمنا بوصفه، فلماذا تلجأ إدارة
جورج بوش إلى التعتيم والتضليل،
وما هي أهدافها من الترويج لكذبة
عودة الأمن إلى العراق؟
لقد تعوَّدت الجماهير على سماع
رقم مئات العمليات اليومية وسقوط
العشرات من جنود الاحتلال قتلى
وجرحى، وفجأة تختفي هذه الأخبار
من شاشات التلفزة وصفحات الجرائد.
إن هناك عاملاً نفسياً تكوَّن عند
المتابع، يتعلق بسقف محدد من
العمليات، ولم يعد يتقبل نهمه
النفسي أقل منه.
من هذا العامل، مترافقاً مع حالة
تعتيم قصوى على أداء المقاومة،
نشأت مشكلة المراقب النفسية
وأصبحت كأنها مشكلة ما حصلت عند
المقاومة، بينما واقع الأمر هو
غير ذلك. فباستثناء انحسار عدد
العمليات العسكرية للمقاومة
العراقية، وهي عائدة لأسباب
عسكرية تكتيكية وفنية مدروسة، لا
نرى شيئاً مما تروج له إدارة جورج
بوش له علاقة بالواقع الميداني
على أرض العراق.
أيتها
السيدات، أيها السادة
ليست هناك حركة جديدة تمارسها
إدارة جورج بوش إلاَّ وتكون
مدروسة وموجَّهة ومخططاً لها،
آخذة بعين الاعتبار أهداف خطابها
الموجَّه إلى أكثر من جهة أميركية
ودولية وعربية. وإنه مما فاجأني
أيضاً تصريحاً لباراك أوباما،
المرشح الديموقراطي لرئاسة
الولايات المتحدة الأميركية.
الحزب الذي وصل على أصوات
الرافضين لاحتلال العراق، يُستنتج
من تصريحه أنه أصبح مقتنعاً بأن
الهدوء الأمني يسود العراق، أما
في الوقت ذاته فلا يزال مصراً على
سحب الجنود من العراق وإعادتهم
إلى بلادهم. فهل هي صحوة ضمير ضد
مبدأ الاحتلال، أم أنه معبِّر عن
حقيقة ما يتعرَّض له الاحتلال من
مصاعب حتى في هذه المرحلة؟
وإذا علمنا أن اعتراض الحزب
الديموقراطي على الاحتلال كان
نتيجة لفشل الاحتلال، وليس رفضاً
للاحتلال بعينه، فكيف يوفِّق
أوباما بين موقفيه: الاعتراف
بعودة الأمن إلى العراق والإصرار
على الانسحاب منه؟
فإذا رحنا نفتش عن الأسباب،
فسنجدها في مقولة الديموقراطيين
المبدئية، التي يتوافقون فيها مع
الجمهوريين، القائلة: إن انسحاب
الجيش الأميركي من العراق يجب أن
يكون مشرِّفاً.
إن قراءة ما يجري الآن في
الولايات المتحدة الأميركية، وما
يُعد له من ترتيبات جديدة لاحتلال
العراق، تفرض علينا أن نعيد
التذكير بتلك الحقيقة، وهي العمل
من أجل (خروج مشرِّف) للجيش
الأميركي من أرض العراق التي
تتحرك تحت أرجل جنوده وإدارته.
فهل هناك دلائل وبراهين تؤكد أن
ما يتم الإعداد له هو الإعداد
لـ(لانسحاب المشرف)؟
-أولاً:
وقبل كل شيء، إن عامل المقاومة
الذي أرغم احتلالاً كان يعد نفسه
لحكم العراق إلى الأبد، هو ذاته
ميزان الثقل والتأثير. فما دامت
مطحنة المقاومة تستهلك روح العدو
وجيبه، فلا خوف على النتائج
المحسوبة اليوم من التراجع.
مقاومة مستمرة حتى لو نجح المرشح
الديموقراطي. لأن تراجع الفعل
المقاوم الذي كان سبباً في إرغام
الشارع الأميركي على المطالبة
بالانسحاب، سيعيد ذلك الشارع إلى
حالة استرخاء طالما أصبح أبناؤه
الجنود بأمان، وطالما استراحت
جيبه من الإنفاق الخيالي على حرب
تصب نتائجها في جيوب الشركات
الكبرى.
وطالما كانت فاتحة الكلام
البسملة، فإن فاتحة تحليل نتائج
ما ستؤول إليه قرارات الولايات
المتحدة الأميركية هو استمرار
المقاومة، هذا إذا لم يكن من
تكتيكاتها أن تنقل عملياتها إلى
مستوى نوعي أكبر لكي لا تجعل
الرئيس الجديد يلتقط أنفاسه.
ثانياً:
من أهم عوامل القوة في احتلال
العراق، كانت الثقة بمستوى
التكنولوجيا الهائلة التي
يمتلكها، وطالما لم يستطع تحديثها
إلاَّ ووجد ما يبطل مفعولها في ما
ابتكرته الأجهزة الفنية لعسكريي
المقاومة، فإنه لن يراهن إلى
الأبد على تقدم تلك التكنولوجيا
طالما أصبحت معنويات من يستخدمها
دون درجة الصفر.
ثالثاً:
تهدم الجدار الدولي الشكلي الذي
بنته إدارة جورج بوش حول قواتها
في العراق، وهو شرط لا تستطيع
الولايات المتحدة الأميركية أن
تستمر في احتلالها من دونه، بخاصة
عندما تراكمت حالة العداء
للأميركيين حتى في الشارع الغربي.
رابعاً:
انحسار حيوية النظام العربي
الرسمي وعجزه عن تقديم حتى قشة
التمثيل الديبلوماسي في العراق
المحتل. ومن فعل ذلك فقد فعلها
ليس عن قناعة إلاَّ بمقدار طلبه
للنجاة من الضغط الأميركي.
خامساً:
لم يكن الجدار الدولي المناهض
للاحتلال، قبل الاحتلال، متيناً،
بحيث أن المناهضين لم تكن خطورة
مشروع الاحتلال بائنة بشكل تام
وواضح. أما الآن فتميل علاقات تلك
الدول مع الولايات المتحدة
الأميركية باتجاه التوتر. وهي إن
كانت لا تريد أن ترى أكبر جيش في
العالم مهاناً، إلاَّ أنها لا ترى
مصلحة لها في تمكين الاحتلال من
الاستقرار في العراق. وقد تنعكس
تلك المواقف إيجاباً على دعم
المقاومة العراقية بشتى الأشكال
والوسائل.
سادساً:
دخل الإقليم، وتحديداً النظام
الإيراني، شريكاً في احتلال
العراق طمعاً بتنفيذ أجندته
الخاصة، ذلك الدخول كان ورقة قوة
بيد الاحتلال الأم، ولكن تضارب
المصالح الآن حول تقسيم الحصص،
دفع بالحليفين إلى موقع الضعف
معاً على الرغم من أن ما تراه
العين يوحي وكأن النظام الإيراني
يمتلك أوراق قوة في العراق، إلاَّ
أن العكس هو ما نراه. أما السبب
فهو أن المشروع الإيراني، بإصراره
على تقسيم العراق، يدفع بكل دول
الجوار العربي وغيره إلى الخوف
والريبة مما يتهدده من مخاطر
تفتيت طائفي ومذهبي.
سابعاً:
عجز أدوات الاحتلال وعملائه عن
تنشيط ما يسمونه بـ(العملية
السياسية)، بفعل ما يدور بينهم من
صراعات وصلت، وقد تصل في المرحلة
القادمة، إلى ما يشبه الاقتتال
الشرس بين ميليشياتهم.
ثامناً:
ماذا بقي من عوامل تساعد على صمود
الاحتلال؟
لم يبق في أجندة إدارة جورج بوش
غير رهانين اثنين:
-الأول:
الرهان على إضعاف المقاومة
العراقية من خلال استخدام كل
التكتيكات الآنفة الذكر. تلك
التكتيكات التي لم يقبض الشعب
الأميركي بنفسه صلاحيتها لتجاوز
مأزق احتلال العراق.
-الثاني:
الخروج بما تيسر من اتفاقيات يحسب
الاحتلال أنها ستكون ملزمة للعراق
حتى بعد الانسحاب.
فإذا كان الرهان على إضعاف
المقاومة لا يزال ساري المفعول،
فإن الاحتلال لم يترك مكتسبات
للشعب العراقي تشجعه للدفاع عنها،
بل ترك له كل ما يستفزه ويحرضه
على المقاومة. لم يترك له الحد
الأدنى من معالم الدولة، فهو قد
دمَّر كل شيء، ونهب كل شيء، وأفسد
كل شيء، وهجَّر كل شيء. أما عملاء
الاحتلال، وشركاء الاحتلال، من
بعض الأنظمة الرسمية العربية
والنظام الإيراني، فلم يتركوا
أيضاً في ذاكرة الشعب العراقي ما
يجعله يغفر لهم. وهل تموت
المقاومة عند شعب يتعرَّض لكل تلك
المآسي؟
وأما الاتفاقيات، باستثناء حماية
جيش الاحتلال في قواعد عسكرية
محصَّنة، فهي حبر على ورق قانون
لا يمت للقانون الدولي بصلة. وأما
القواعد العسكرية فستكون وظيفتها
حماية حكومة الاحتلال من خارج
المدن والمناطق الآهلة بالسكان،
وهذه سوف تنجح بوظيفتها النظرية
إذا بقيت مدن أو مناطق خاضعة لحكم
العملاء.
وقد يراهن البعض على تشكيل عمق
إقليمي، قدماه إيران وتركيا،
سيعمل على ملء فراغ سيتركه
الاحتلال الأميركي في العراق،
وعلى الرغم من أنه احتمال يتم
الإعداد له، إلاَّ أن التخطيط
يحتمل عشرات الثغرات التي تحول
دون اعتباره واقعياً.
أيتها
السيدات أيها السادة
يبقى عامل الدفاع عن السيادة
الوطنية العراقية عبوة ناسفة
ستنفجر في وجه أي معاد لها ومنتقص
منها. ويبقى عامل الدفاع عن
السيادة القومية مهمازاً يؤرق حتى
أكثر العابثين بالمصير القومي
العربي. فهؤلاء جميعاً إذا كانوا
قد رضخوا إلى إملاءات أكبر دول
العالم وجبروتها تحت وهم حماية
كراسيهم، فإن كراسيهم تحت ظلال
الإقليم ستكون مهانة تهتز من تحت
أقدامهم لا محالة.
وأخيراً فليعذرنا من يتهمنا
بالرومانسية، ونقول لهم متى كانت
حماية الكرامة والسيادة رومانسية؟
فمرحباً برومانسية تحرض المدافع
عن وطنه ليصبح زاهداً بحياة، بل
رافضاً لحياة، لا كرامة فيها ولا
شرف. |