كانت المقاومة العربية نتيجة
طبيعية لخصوصية موقع الأمة
العربية في قلب المخططات
الاستعمارية والمخططات
الاستيطانية الصهيونية. وكانت ردة
فعل طبيعية ضد انتهاك سيادتها
واحتلال أرضها والاطماع بثرواتها.
ومن جانب آخر، وللديمومة التي
تميز تلك المخططات كان لا بدَّ من
ديمومة المواجهة، تلك الديمومة
مشروطة ببناء الحزب المقاوم،
الحزب الذي يجدد نفسه ويضمن
استمرار نهج المقاومة طالما ظلت
مشاريع الاحتلال قائمة، ولا يضمن
هذا الاستمرار إلاَّ الأحزاب التي
تجدد حيويتها وتنتج أشكالاً
وآليات قادرة على مواكبة التجدد
في استراتيجية المشاريع المعادية
بأشكالها وآلياتها.
بنظرة فاحصة لواقع الحزب
العربي، من المحيط إلى الخليج، لا
نستطيع التقاط ما يجعلنا نطمئن
إلى حاضر الأمة، لأن الحزب العربي
الذي يمتلك تلك المواصفات أصبح
نقداً نادراً، لكنه ليس مستحيلاً،
ودليل عدم استحالته هو أن الأمة
التي تنتج المقاومة باستمرار، منذ
الربع الأول من القرن العشرين، أي
منذ أطلت مشاريع الاستعمار
والصهيونية، لهي قادرة أيضاً على
أن تنتج الحزب العربي الذي يرتقي
إلى قامة المقاومة.
ليست نشأة الأحزاب الطليعية
منفصلة عن توق الأمة واتجاهاتها
وأهدافها، تلك الأمة التي هي
مجموع جماهيرها. ولما كانت الأمة
تتوق إلى مواجهة كل من ينتقص من
سيادتها وكرامتها ويعمل على سرقة
ثرواتها ويحرص على تجويع شعبها
وإذلاله، فإنها ستبقى المهماز
الحقيقي والعملي لكل الحريصين
والواعين من أجل أن يبقى خيط
الارتباط موجوداً بين أهداف الأمة
وآمالها من جهة، ومن جهة أخرى بين
الحزب العربي الذي ينظم جهود
طلائعها وجماهيرها في نسيج تنظيمي
له أعماقه الفكرية الاستراتيجية
وخططه المرحلية المتجددة بحيوية
تواكب حركة المتغيرات، فتعمل على
صناعتها وإنتاجها بما يتناسب مع
أهداف الأمة ومصلحتها.
وحتى لا يكون الحزب العربي صدى
منفعلاً بتلك المتغيرات، عليه أن
يكون عاملاً فاعلاً في صناعته من
جهة، مواجهاً وموجهاً لها من جهة
أخرى.
استناداً إلى ذلك، فأين هو
موقع الحزب العربي المنشود؟
لا نقصد أن يحتكر حزب واحد كل
الأحزاب ويختصرها بنفسه، أو تحتكر
قيادة الحزب العربي السلطة
التنظيمية وتختصرها بنفسها، بل
نعني بالحزب العربي المنشود هو
تعددية في الاتجاهات والقوى
والحركات المنضوية تحت خيمة
مرجعية قومية عربية تعمل على
الدفاع عن كل الأمة، قطراً قطراً.
وتعمم استراتيجية المواجهة في
نفوس كل جماهير الأمة، فرداً
فرداً. الحزب العربي الذي يرفع
مصلحة أمته العربية فوق كل
المصالح والأهواء، انطلاقاً من
الإيمان بأن من لا يكون وطنياً
صالحاً فلن يكون قومياً صالحاً،
ومن لا يكون قومياً صالحاً فلن
يكون أممياً صالحاً.
إن الحزب العربي المنشود هو
الحزب الذي يبدأ بصياغة عوامل
حيويته من داخله أولاً، وينتقل
إلى الإسهام في دفع غيره من
الأحزاب إلى اجتياز مخاضة أزماته
ثانياً، وتكوين عمل جبهوي وطني
يعمل على تطويره إلى المستوى
القومي ثالثاً.
مقارنة بين مرحلة المد الحزبي
الذي عرفته الخمسينيات والستينيات
من القرن العشرين، على الرغم من
الثغرات التي كانت سائدة بين
مجموعة أحزاب حركة التحرر العربي،
وبين المرحلة الراهنة، لا نرى
إلاَّ أزمات داخلية هنا أو هناك.
وإنه في الوقت الذي كنا ننشد
فيه هدف ردم ثغرات العلاقات
السلبية السائدة في تلك المرحلة
بين أحزاب كانت تعرف حداً أدنى من
التماسك الداخلي، نجد اليوم أزمات
داخلية تعمُّ الأحزاب وتنهش في
بنيانها الداخلي، الأمر الذي
يدفعنا للدعوة إلى أن تبدأ أحزاب
حركة التحرر العربي بالخروج من
أزماتها الداخلية أولاً، وثانياً
بالسرعة التي توجبها انطلاقة
مقاومة عربية تتوسع وتنتشر حيثما
يضع الاستعمار والصهيونية
أقدامهما.
هنا يلفتنا ما حصل في العراق
بعد الاحتلال، خاصة مرحلة حالة
الذهول التي صدمت جماهير الأمة
العربية، ومنهم البعثيون، عندما
رأوا دبابات الاحتلال في وسط
العاصمة بغداد، حينذاك كانت
للصدمة وقع الصاعقة حينما دفعت
الكثيرين منهم إلى التنكر لحزبهم،
ودفعت الكثيرين إلى الانقلاب
عليه. لكن ما إن انطلقت المقاومة
العراقية وانتشرت أخبارها وعمَّت
تأثيراتها، حتى تراجع المذهول عن
ذهوله، وفاقد الثقة بحزبه إلى
الثقة به وبقيادته.
لقد فعل ذلك مئات الآلاف من
العراقيين، إلاَّ من روعته الصدمة
ومن اختار طريق الانهزام، وحصل
الشيء ذاته بالنسبة إلى جماهير
الأمة العربية. فشكلت المقاومة
التي أعدَّ لها الحزب وأطلقها
العامل الأساسي الذي أعاد
للمروَّعين ولفاقدي الثقة،
الحيوية، بمن فيهم البعثيون
وجماهير الأمة العربية.
إن المقاومة العراقية، كونها
مقاومة تنتسب إلى حزب منظم قومي
الاستراتيجية والأهداف، قد أدَّت
دورها ومهماتها بإعادة الحيوية
والثقة إلى تلك الشرائح الواسعة،
فيكون دورها قد انتهى عند تلك
المهمة أما استكماله فيقع على
عاتق الحزب العربي، الأمر الذي
يدفعنا إلى التساؤل عن المستوى
الذي بلغه بالقيام بالدور النوط
به؟
هذا ما له علاقة بالمقاومة
العراقية كونها المقاومة المنوط
بها سحق رأس الأفعى المتسلقة
الذي، من دون سحقه، ستعود إلى
استعادة ما خسرته في كل مكان من
العالم، وبشكل أخص في كل من لبنان
وفلسطين.
أما المقاومة في فلسطين، صاحبة
الفضل الأول بتطبيق استراتيجية
الكفاح الشعبي المسلح، والتي لا
تزال مستمرة بأشكال ووسائل أخرى،
والمقاومة في لبنان، كاستمرار
لمخزون مقاوم لبناني وطني، التي
حققت إنجازين مهمين في العام 2000
والعام 2006، فلا يزالا يقومان
بدورهما. لكن، من دون أن نتناسى
دور بعض ما تبقى منه، أين هو موقع
الحزب العربي في الإسهام بإدامة
المقاومة العربية في الأقطار
الثلاثة؟
لا ينكر أحد علينا القول إن
الحزب العربي لا يزال يلعب دوراً
منفعلاً بما تحققه المقاومة
العربية من دون الانتقال إلى دور
المساهم والمشارك والمعد لاحتمال
احتلالات أخرى بأشكال مباشرة أم
غير مباشرة.
باعتبار فلسطين أول قضية عربية
تعرَّضت للاحتلال، وهي لن تتحرر
ما لم يتم القضاء على الاستعمار
في وطننا العربي، نتساءل: أين دور
الحزب العربي في الاعداد لمرحلة
ما بعد تحرير كل من لبنان
والعراق؟
إن أول ما يتبادر إلى ذهننا
المفاهيم المطروحة، علينا أن نعرف
كيف نبني إذا هدمنا، يتبادر إلى
الذهن أيضاً السؤال التالي: هل
لدى الحزب العربي المنشود خطة
للبناء بعد تحرير لبنان والعراق؟
إننا، وعن هذه الأسئلة، نسهم
في الإجابة قائلين: ما لم يمتلك
الحزب العربي مشروعاً للبناء،
فإنه كمن لا يمكنه الاستفادة من
إنجازات التحرير فحسب، بل سيعرِّض
تلك الإنجازات للتآكل والاهتراء
من جديد، فتعود الدائرة الجهنيمة
إلى فرض نفسها، إذ إن العجز عن
البناء سيشكل البوابة التي سيعود
منها الاستعمار إلى احتلالنا من
جديد، بطريق مباشر أم غير مباشر.
إنها بالحقيقة أزمة الحزب
العربي الداخلي أولاً، لأنه إذا
كان عاجزاً عن تطوير أدائه
التنظيمي الداخلي، فهو عاجز أيضاً
عن تطوير أدائه النضالي في قيادة
الجماهير ثانياً، وهو عاجز عن
تطوير آلياته القيادية وتثبيت
عجزها عن التجديد في فهم مهماتها
التي إذا لم تفرضها ضرورات
المرحلة الراهنة فهي ستكون أعجز
من أن تواكب متغيرات المستقبل.
إنه الحزب العربي الذي لا يزال
يقتات من بعض السمنة في تجاربه
السابقة قبل دخوله إلى مرحلة
السبات الحالية. إنه الحزب العربي
الذي عليه أن يراجع إيجابيات
تجربته السابقة ليبني عليها
مداميك أخرى بدلاً من الحرص على
الأكل مما تركه الأسلاف، لأن هذا
الاحتياط سينفد معينه لا محالة. |