فعل وسطاء الزعيم الليبي معمر
القذافي كل شيء ممكنا من أجل أن
يسترضوا إيران وحزب الله وحركة
أمل سعيا لإغلاق ملف إختفاء
/
إغتيال الإمام موسى الصدر.
وكل شيء، يعني كل شيء. من التمهيد
للإعتراف بحكومة عملاء واشنطن
وطهران في بغداد، الى تقديم
مساعدات سخية ومن دون حساب لحركة
أمل وحزب الله غداة حرب صيف عام
2006، الى تبني لهجة إعلامية تجعل
من مقاومة حزب الله رمزا لا يعلوه
رمز، الى التضييق على منتقدي هذا
الحزب، الى تحويل السفير الإيراني
في طرابلس الى المفتش العام على
الأفكار المتداولة، الى الإستعداد
لتبني إيديولوجية فاطمية جديدة
تقطع الطريق على المألوف المالكي،
المعتدل والعقلاني، الذي ينتسب
اليه سنة شمال أفريقيا.
ولكن ذلك كله لم ينفع. وعاد ملف
القضية ليُطرح أمام القضاء،
وليُصدر قاضي التحقيق في بيروت
حكما يطلب "جلب" المتهمين
لمقاضاتهم بموجب أحكام تؤدي الى
الإعدام.
ويذهب بنا الإعتقاد الى انه حتى
ولو خرجت مواكب التطبير للعزاء
على الحسين في شوارع طرابلس، فمن
المشكوك فيه تماما أن يسترضي ذلك
طائفيي المشروع الإيراني في
المنطقة.
على الأقل، هم أخذوا الفلوس،
وعادوا ليحركوا القضية. ربما من
أجل فلوس أكثر. وربما من اجل ان
يروا مواكب التطبير "الفاطمية"
تجول في شوارع طرابلس بالفعل،
ولكن بالتأكيد من أجل القول انهم
لم يشتروا من الوساطات إلا ما
يريدونه منها. ولكنهم برغم كل
شيء، لن يغفروا للمسؤولين
الليبيين إختفاء/إغتيال مؤسس حركة
المستضعفين في لبنان.
يستند هذا الموقف الى عدة أسباب
ما يزال من المبكر على وسطاء
العقيد القذافي أن يفهموها.
الأول،
حركة أمل وحزب الله اللذان حولا
الإمام الصدر الى أسطورة تناغي
أسطورة "إختفاء الإمام المهدي
المنتظر" لا يريدان، ولا ينفعهما
(لإعتبارات أسطورية) أن يكتشفا ان
الإمام الصدر قد مات وشبع موتا
وأن "غيبته" لم تكن سوى عملية
إغتيال عادية حصل مثلها في
تاريخنا السياسي الكثير.
ففوق القتل الأول، فان الكشف عن
تفاصيل مقتل الإمام الصدر يناظر،
من ناحية أخرى، قتل الأسطورة.
وهذا ما يجعلهما جريمتين، ثانيهما
أقسى من الأولى. وحيثما تزداد
الأسطورة تألقا بإنتظار "عودة
المهدي" الى يوم يبعثون، فان عودة
عظام الصدر وهي رميم لن تقدم
الكثير لأنصاره الذين يفضلون
اللطم عليه الى يوم يبعثون. فعودة
الجثمان سيجعله عابرا لا أسطورة
فيه. وهذا يعني، ببساطة، ان
الصدر، مختفيا وغائبا، يقدم خدمة
سياسية وإيديولوجية أكبر بكثير
منه حتى ولو عاد حيا.
الثاني،
هو أن الظافرية الشيعية التي
يجسدها حزب الله في لبنان، وتفوق
المشروع الطائفي الشيعي في العراق
(تحت ظلال زيزفون العم سام و...
دباباته)، ونجاح آيات الله في
طهران في تركيب أسنان نووية
لدفاعاتهم، تجعلهم في غنى عن
تقديم أي تنازلات لبلد يعتبرون
انه غير قادر، عمليا، على ان يقدم
لهم الكثير حتى ولو أراد، فكيف
إذا لم يستطع!
الثالث،
هو ان ليبيا سنية. وهذا يضعها في
موضع "الآخر" دائما من وجهة نظر
المشروع الصفوي.
والرابع،
هو ان الفاطمية التي تبدو وكأنها
تسوية تاريخية للإنقسام الإسلامي
ليست مطلوبة هي أيضا.
فالظافرية الشيعية (الإثنا عشرية)
ليست في حاجة الى قبول تسوية تأكل
من مواقعها، وتخرج من دائرتها
ثلاثة أرباع "الأئمة المعصومين".
والحال، فلو كانت القوى متعادلة،
ولو كانت الحرب الطائفية تسفك من
دماء الطرفين ما يسمح لها بالبحث
عن مخرج، لكان يمكن للفاطمية ان
تكون مشروعا جديرا بالتأمل. ولكن
أما وأن السنة هم وحدهم الذين
يدفعون ثمن المذبحة، وأما وأن
المشروع الصفوي يحقق تقدما في كل
أرجاء محيطه الإقليمي، فان أي
تنازل لـ"الآخر" سوف يبدو من لزوم
ما لا يلزم.
والخامس،
هو ان مزاجية السياسة في طرابلس
وتقلباتها المفاجئة لا تضمن لأحد
شيئا، ولا تُغري بالكثير.
والسادس،
هو أن آيات النفاق في طهران
وبيروت ليسوا فرقة واحدة. ويكاد
ارضاؤهم جميعا من رابع
المستحيلات. وسيكون أحلى من العسل
على قلب أي أحد منهم أن يُمسك
بجلباب الإمام ليحوك من حوله
بركته الإيديولوجية الخاصة،
ويخوّن الآخرين. وهذا أمر لا يفيد
أحدا في معسكر الظفر.
والسابع،
هو أن ليبيا ليس لديها ما تعطيه
سوى المال. والمال، عدا عن انه
كثير (ولدى إيران من وفرته بمقدار
ما لدى طرابلس) فانه وسخ. ويملأ
قابضيه "الثوريين" بمشاعر العار.
وهذه أسباب تكفي للقول ان ملف
إختفاء/إغتيال الإمام الصدر سيظل
يلاحق ليبيا مهما فعلت.
كان من الأجدر، على الدوام، ان
تتمسك ليبيا بروايتها. وان لا
تقدم تنازلات من اجل سيناريو
تسوية سيظل يُنظر اليه على انه
هزيل.
ما يلاحقه طائفيو المشروع الصفوي
هو ليس القصة الحقيقية لإختفاء
الإمام الصدر. ولكنهم يلاحقون
الأسطورة. وآخر شيء يحتاجونه، في
الملاحقة، هو الحقيقة. فهذه تفرقع
الأسطورة وتحط من شأنها.
القصة هي التأويل. والأسطورة تنبع
من تأويل التأويل. وهذا شأن أكثر
تعقيدا من أن تدركه الثقافة
الظاهرية في ليبيا، حيث القصة هي
القصة نفسها، او شيء منها يُرضي
الراوي والسامع على حد سواء.
ولكن "ما هكذا تورد الإبل" في
محيط الثقافة الباطنية التي ينطلق
منها أصحاب المشروع الصفوي.
فهؤلاء القوم قد يقولون ما
يقولون، وقد يدفعونك الى فعل ما
يرغبون، إلا أنهم غالبا ما يقصدون
الإحالة الى تأويل، وغالبا ما
تُحرك دوافعهم مرجعيات "ما بعد
بعد" التأويل.
يوم كانت ليبيا تزود إيران
بالصواريخ لتقصف بغداد، خلال
سنوات الحرب العراقية الإيرانية
(1980-1988)، لعلها كانت تريد ان
تقدم مساهمتها لغسل دم الإمام
الصدر بدماء الأطفال في شوارع
بغداد. ولكن تلك المساهمة لم
تساعد في محو آثار خطواته الأخيرة
في طرابلس. بقيت طهران تستمع
بفوائد شق الصف العربي، وتغمز في
السر من قناة الدوافع الثورية
الليبية للتضامن مع "الثورة
الإسلامية"، وظل دم "الإمام
الثائر" مطلوبا من طرابلس. وها هو
يعود على هيئة مذكرة "جلب" يصدرها
قاضي تحقيق في بيروت، بعد كل
اللطم الفاطمي على الحسين، وبعد
كل التضامن مع "المقاومة
اللبنانية".
ميول ليبيا الثورية ربما تغيرت.
ولعلها صارت ميولا غير ثورية
بالمرة. وقد تعود، ألله أعلم، ذات
صبح مفاجئ، لتكون ثورية أيضا، قبل
ان تعود لتهدأ وتنط، حسب ظروف
الربع ساعة التي سبقتها، إلا أن
شيئا واحدا لن يتغير أبدا.
ليبيا عربية، وهي "آخر"، مهما
فعلت، من وجهة نظر المشروع
الطائفي الإيراني.
فكم كان من الأولى بهذا "الآخر"
أن يعود الى بيئته ويدعم مشروع
المقاومة التحررية الحقيقية، لا
مشروع الطائفيين الصفوي.
وكم كان من الأولى فرقعة
الأسطورة. فالقصة هي القصة،
والرجل مات بحادث سير. أو لعله
تزحلق في الحمام فوقع على عمامته
ومات. أو شيء من هذا القبيل.
وليضرب رأسه بالحيط من يرغب
برواية أخرى.
وفي الواقع، فان اللطم على مذبحة
الضحايا في العراق (الذين يقتلون
بأيدي فرق الموت الإيرانية) أكثر
انسجاما مع ثقافة ليبيا وبيئتها
من اللطم على الحسين.
ما لم يفهمه وسطاء الزعيم الليبي،
هو انهم يركضون في الطريق الخطأ،
ويقدمون التنازلات الخطأ،
ويتحدثون مع الطرف "الثوري"
الخطأ، ويروون الرواية الخطأ،
ويحاولون تسوية الأسطورة، وهم لا
يدركون أنها مما لا يمكن الوصول
الى تسوية فيه. |