"قيل لما كانت الليلة التي ولد
فيها النبي محمد(ص) إرتجس إيوان
كسرى وسقطت منه(14) شرفة وخمدت
نيران فارس" من كتاب دلائل النبوة
للإمام البيهقي.
البعض يعتبر
السكوت علامة الرضا, وعندما يكون
السكوت ناجم عن ارتكاب خطأ ما
فأنه بشكل أو آخر يعني اعتراف
ضمني بارتكابه وعدم توفر
الإمكانية أو الرغبة بالمحاججة أو
التفنيد, ويحدثنا عالم الاجتماع
ابن خلدون بأنه" لا تثقن بما
يلقى إليك من الأخبار, بل تأملها
وأعرضها على القوانين الصحيحة يقع
لك تمحيصها بأحسن وجه" وربما أخذ
الفيلسوف اوجست كونت هذه الفكرة
الخلدونية وتطورها ليبني مذهبه
الوضعي قبل خمسة قرون خلت متوصلا
إلى نفس النتيجة باعتماده على
الحواس لتحليل الظواهر الاجتماعية
فالمعرفة اليقينية بتصوره هي
بوصلة الإدراك الحسي وليس
البراهين العقلية المعنوية! في
حين اعتمد الفيلسوف ديكارت على
الوجود الفعلي لإثبات نظريته
معتبرا الشك أساس الحقيقة وبني
نظريته المعروفة على أساس القاعدة
الفلسفية" أنا أفكر إذن أنا
موجود"
ولسنا بصدد
الخوض في لج الفلسفة محاولين درء
أنفسنا منها بعد أن نصحنا
الفلاسفة أنفسهم بالحذر والتأني
من الاقتراب من ضفافها معتبرين إن
القليل منها يؤدي بالإنسان إلى
الإلحاد والكثير منها يعود به إلى
مرفأ الأيمان, ولكن الغرض من
العرض المبسط هو حديثنا عن الظن
والشك, ونحاول أن نطبق أدواته على
العراق الجديد الذي أمسى كل شيء
موضع شك.
كان المندوب
السامي الأمريكي بول بريمر أول من
فضح دور الحوزة العلمية في مد
يدها للاحتلال ومباركة دعوته
التحريرية علما أنها حالة تعد
فريدة في مضمونها ليس بالنسبة إلى
موقف المراجع من الاحتلال حيث كان
البعض منهم قد وقف مع قوات
الاحتلال الانكليزي في الربع
الأول من القرن الماضي, ولكن
الأمر يتعلق بحقيقة إن العراق لم
يكن محتلا لكي يتحرر! بل العكس
كان الصحيح فقد تحول العراق بفعل
الغزو من بلد محرر إلى بلدا محتلا
وهذا ما تعترف به الشرعية الدولية
والقانون الدولي, ولكم هذا
الموضوع ليس مرادنا فقد تحدثنا
وتحدث غيرنا به إلى حد التخمة,
لقد أعترف بريمر بأنه كان يستطلع
رأي الحوزة العلمية في كل شاردة
وواردة, واعترفت وداد فرنسيس
مستشارة بريمر بأنه يعتبر السيد
السيستاني بمثابة الورقة الرابحة
أو الفرصة الأخيرة في أي موقف أو
مأزق سياسي يواجهه, معتبرا ان
الرجل يمتلك"عصا موسى" فاكبر حريق
سياسي أو احتقان طائفي أو مذهبي
أو عرقي تخمده ورقة صغيرة تخرج من
مكتب السيد مذيلة بختمه, بل تصل
وداد إلى نتيجة عجيبة بقولها
بأنها لو لم تكن متأكدة من كون
بريمر أمريكي ومسيحي لاقتنعت بأنه
يقلد السيد السيستاني خوفا من
ثقله الديني
والسياسي,
وبالرغم من أن انطلاقة بريمر
متأتية من نظرته لما روج له من
الأكثرية الشيعية والأقلية السنية
التي مهد بها للمحاصة الطائفية
التي أشعلت ومازالت البلد وحولته
إلى مقبرة مليونية, فأن هناك شكوك
حول دعوة بريمر هذه فالسيستاني
رغم ثقله الديني فانه لم يكن له
في البداية ثقل سياسي بمستوى كبير
وهذا الثقل وضعه بريمر نفسه تحت
عمامته ليزيد وزنه تحت ظل انه
يمثل الأغلبية وهم الشيعة في
توظيف ديموغرافي غريب, فمن
المعروف أن تقسيم سكان أية دولة
في العالم حسب الدين يعني أن
يرتكز التوزيع على نوع الديانة
سواء كانت سماوية أو وضعية
وبالرجوع إلى أية موسوعة عالمية
للبحث عن توزيع السكان لا تجد
جمعاً بين التوزيع ألاثني والقومي
في نفس الوقت, بل ينفصل كل منهما
على الآخر, ففي الولايات المتحدة
نفسها وبقية دول أوربا تجدها
مقسمة أثنيا إلى المسيحيين
الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن
واليهود والمسلمين وبقية
الأثينيات وهكذا, في حين حسبت
الأكثرية في العراق بطريقة
بريمرية تكرس الطائفية فقدصنف
السنة إلى العرب السنة فقط وأخرج
منهم الأكراد بالرغم من أن 85% من
الأكراد هم على المذهب الحنفي,
وحوالي15% من الشيعة هم الأكراد
الفيليين ونفس الأمر بالنسبة
للتركمان! وحسب الإحصائيات
المعتمدة في دول العالم يفترض أن
يقسم العراق أثنيا إلى المسلمين
والمسيحيين واليهود وبقية
الأقليات كالايزيديين والصائبة,
وإذا أريد أن يفصل المسلمون حسب
المذهب وجب أن يدخل الأكراد وفق
المذهب لا أن يعزلوا كما جرى خلال
الغزو وكان الغرض من هذه العملية
تهميش السنة وإضعاف دورهم وفسح
المجال لهيمنة الأكثرية المزعومة.
وفي الانتخابات السابقة انضم
الفيليين والتركمان الشيعة إلى
الائتلاف الشيعي إلا أن السنة من
الأكراد والتركمان لم تكن ضمن
التشكيلة الانتخابية للسنة! ومن
المؤكد ان هذا التوزيع تناسب مع
طروحات بريمر والحوزة فكلاهما لعب
بورقة الطائفية على نحو مدروس
ومخطط له.
ولكن أن يعترف بريمر بثقل
السيستاني السياسي فان
الأمر يحتاج إلى وقفة, فرجل الدين
كما ذكر بريمر في مذكراته قال له
في بداية الغزو" نحن أجنبيان
ولنترك الشعب العراقي يقرر مصيره
بنفسه"! وبالرغم من عدم التزام أي
منهما بهذه القاعدة فلكل أجندته
الخاصة وهي كما بينت الظروف
اللاحقة متكاملة وليست متعارضة
كما روج لها, فان اعتراف بريمر
بثقل السيستاني الديني وهو أمر
معروف لكن السياسي أمر مجهول,
ويفسر قول بريمر أن السيستاني رجل
سياسة بنسبة تعادل كونه رجل
الدين, بتأكيد حقيقة إن المرجع
حشر أنفه في سياسة البلد رغم انه
أجنبي ويفترض أن يحترم البلد
المضيف! ويعترف بريمر بان هناك
مراسلات تزيد عن (25) رسالة بينه
وبين المرجع تناقش مختلف الأمور,
ومن الطبيعي ان السياسي
والدبلوماسي بريمر سوف لا يناقش
المرجع رسالته العلمية أو يسأله
عن سبب تحريمه أكل السرطان وسماحه
بتناول الروبيان, أو سبب إصداره
فتوى بتحريم زواج الشيعية من
السني! كما أن المرجع سوف لا يسأل
بريمر حول تأثير العولمة على
الدبلوماسية الأمريكية الحديثة او
خطة خصخصة النفط العراقي.
وداد فرنسيس تعترف ان هدهد سليمان
بين المرجعين المعمم والأفندي
كانت تتم عبر عدة مصادر ومنافذ
تورد منهم أبو تراب النجفي من
أقارب السيستاني, وهو فارسي ولكنه
مولود في العراق ويتقاضى راتبا
قدره(15000) دولار عن خدماته
كمستشار ديني لبريمر!
كانت الواقعة كبيرة بالرغم من حذر
بريمر من فضح كل أوراق الحوزة في
النجف في مذكراته الشخصية ولكنه
ما ورد كان كافي لجلي فسيفساء
التعاون بين الطرفين وتأكيد وجود
تنسيق محكم عالي المستوى بين
مصالحهما تجلى في إصرار السيستاني
على إجراء انتخابات مبكرة لحفظ
وحدة الصف الشيعي وكانت الفكرة
ناجمة عن دهاء سياسي افتقر له
ميكافللي نفسه, فقد اثبت أحداث
النجف صحة رؤية المرجع عندما
أنفرط العقد الشيعي بعد معارك
الصدريين في النجف, بمعنى أنه
أدرك بأن لحمة الشراكة الشيعية
مهددة بأن تنفك في أية لحظة وعند
أول طرقة فكان مصيبا في جمع
الأصوات الانتخابية للطائفة, كما
أن الموقف السني اتسم وقتها
بالتشرذم والافتقار إلى المرجعية
ووحدة الصف فكانت الفرصة ذهبية
لاستغلال وضعهم المضطرب هذا
وإبعادهم عن العملية السياسية
وتهميشهم إلى اقل حد ممكن!
لم تعلق الحوزة العلمية حول ما
ورد في مذكرات بريمر وفضحه
تعاونها مع الاحتلال فقد تركت
الظنون تتلاطم لتضيع على الجميع
حقيقة ذلك التعاون والتنسيق, ولكن
حسب نظرية أبن خلدون فأن الوقائع
المتتالية وضعت النقاط على الحروف
سيما بعد أن أشاد الرئيس الأمريكي
جورج بوش ووزيرة خارجيته
كوندوليزا رايس بجهود السيستاني
وتعاونه مع إدارة الاحتلال, وهذه
الإشادة بحد ذاتها أماطت اللثام
عن الكثير مما كان يعتبر ظلال
وتمويه وأكاذيب وألجمت المدافعين
عن نزاهة الحوزة من دنس الاحتلال!
ويبدو أن المصائب لم تأت فرادى
ففي الوقت الذي هادنت فيه الحوزة
الاحتلال وحاول البعض ان يكذب ذلك
اعترف مجيد الخوئي قبل موته بأن
المرجعية أفتت بالتعاون مع قوات
الاحتلال وبالطبع صمتت الحوزة
الناطقة عن التعليق حول هذه
المسألة فلم تنف أو تؤكد ذلك
متعاملة مع الموضوع حسب المثل
العراقي" مثل دينً الكردي لا
ينكره ولا يعطيه"!
بالرغم أن إيقاف فريضة الجهاد
بحجة عدم خروج الطفل الأسطورة
المختفي في السرداب منذ(1000) عام
خشية من سيوف بني العباس, فأن
إيقاف هذه الفريضة بحد ذاته هو
أقصى حدود التعاون مع قوات
الاحتلال دون حتى الحاجة إلى
الاعتراف بصحة فتوى السماح
بالتعاون مع قوات الاحتلال من
عدمه! ولكن الله سبحانه وتعالى
كشف هذه المواقف الضبابية فقد
أوردت بعض وكالات الإنباء
العالمية تزامنا مع تدنيس القرآن
الكريم من قبل جنود الاحتلال في
منطقة الرضوانية قرب بغداد
باتخاذه شاخصا للرماية والتبول
عليه, بأن السيد السيستاني أصدر
فتوى يجيز فيها استخدام السلاح
لإخراج قوات الاحتلال( أي مقاومة
مسلحة) بعد أن أفتى سماحته
بالمقاومة السلمية -ولم نسمع طبعا
بهذه المقاومة-! ولكن في نفس
اليوم اطل علينا أحد وكلاء
السيستاني ليكذب الخبر ويؤكد أن
السيستاني لم يصدر مثل هذه
الفتوى!بمعنى أن السيد لم يجيز
استخدام المقاومة المسلحة لإخراج
قوات الاحتلال! وربما بالدعاء
والتضرع والتوسل والترجي! فبمثل
هذه الطرق النموذجية تحررت شعوب
العالم من نير الاستعمار, ومثال
على ذلك كوبا وفيتنام ويوغسلافيا
ومصر والجزائر!
لقد وضعت الحوزة خطوطا حمراء أمام
قوات الاحتلال في بداية الغزو
تجاه العتبات المقدسة في كربلاء
والنجف وحذرتها من مغبة التقرب
منها! ويستذكر الجميع كيف ألهبت
الحوزة بشكل مبطن مشاعر الشيعة
عندما تحصن عدد ممن سماهم المرجع
الخوئي وقتها" الغوغائيين" في
العتبات المقدسة عام 1991 وقاتلوا
الجيش العراقي الباسل, وأشاعوا
بين الناس أن حسين كامل خاطب
الأمام الحسين(ع) بقوله " أنا
حسين وأنت حسين وسنرى من يفوز"
وتم ترويج هذه الفرية التافهة على
عقول الساذجين والجهلة بطريقة
ابليسية, وعندما تسلم القادمون
على ظهر الدبابات الأمريكية
والمطايا الإيرانية مقاليد الحكم
كانوا يتحدثون دائما عن هذه
الحالة واعتبروها "جريمة" كبرى
بحق الأئمة رضوان الله عليهم
ويستذكرونها خلال اللقاءات
الصحفية وعبر القنوات الفضائية
ولم يسكتوا عنها إلا بعد قيام
قوات الاحتلال بقصف نفس العتبات
المقدسة أبان الصدام مع التيار
الصدري, وقبل ضربها اخرجوا مسرحية
هزيلة الإنتاج والإخراج والفكرة
بإرسال السيد السيستاني إلى لندن
على متن طائرة بريطانية خاصة لغرض
إجراء الفحوصات الطبية وانتهت
الفحوصات بقدرة قادر بعد انتهاء
الهجوم مباشرة؟ وبعدها سكت عن
الموضوع ولم تدين الحوزة هذا
الانتهاك الجسيم ولم تتطرق
المراجع الشيعية إليه في حين
استنكرته جمعية علماء المسلمين
وخطباء وأئمة أهل السنة! ومن
الصعب تفسير هذا الموقف المتناقض
من الحوزة التي أفتت بعدم تجاوز
الإشارات المرورية والمحافظة على
أنظمة المرور لتخفيف الزحام,
ولكنها تجاهلت تجاوز قوات
الاحتلال وقصفها العتبات المقدسة
في النجف!
ومؤخرا سرب السيد رضا جواد
الوائلي وهو من الحوزة العلمية في
النجف وعمل في الأرشيف الخاص
للسيد السيستاني وثيقة دامغة
موقعة من قبل (36) مرجعا وافقوا
على الاحتلال الأمريكي في العراق
وحرموا فيها قتال" قوى الاستكبار
العالمي" بدأها آية الله الشيخ
الدكتور عبد الهادي الفضلي منتهيا
الى الميرزا كمال الدين الحائري,
تضمنت(34) من آيات الله منهم
الأقطاب الأربعة علي السيستاني
ومحمد اسحق الفياض وبشير النجفي
ومحمد سعيد الحكيم! ولم تخرج هذه
الوثيقة الحوزة من صمتها المريب
فلم تنف أو تؤيد ما ورد فيها
كعادتها!
لقد تحول هؤلاء المراجع إلى أصنام
وأرجعونا مرة أخرى إلى العصر
الجاهلي بدلا من أن ننطلق إلى عصر
التنوير والانفتاح, ويعتقد الكثير
من السذج إن هؤلاء الوعاظ لا
يقلون عصمة عن آل البيت باعتبارهم
وكلاء سفراء الأمام المنتظر
الأربعة, وهي عصمة مختلقة خلقتها
عقولهم الضيقة وسذاجتهم الفارهة,
فقد نزعها الإمام علي(ع) نفسه
عندما خاطب قومه " لا تكلموني بما
تُكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا
مني بما يُتحفظ به عند أهل
البادرة، ولا تخالطوني
بالمصانعة، ولا تظنوا بي
استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا
التماس إعظام لنفسي لما لا
يصلح لي ، فانه من استثقل الحق أن
يقال له أو العدل أن يعرض عليه
كان العمل بهما
أثقل عليه, فلا تكفوا عن مقالة
بحق أو مشورة بعدل ، فإني لست في
نفسي بفوق أن
أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن
يكفي الله من نفسي ما هو أملك به
مني . فإنما
أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب
غيره يملك منا ما لا نملك من
أنفسنا".كما أن مبدأ النيابة
العامة للفقهاء عن الأمام المهدي
على الأتباع خلقت نوع من
الدكتاتورية الدينية للمرجع
واعتبرت فتاويه من الأمور
المسلمات ورفعتها إلى مستوى
الآيات الكريمة والأحاديث
الشريفة, فقد حرمت الأتباع من
المجادلة والمناقشة أو الاعتراض
على فتاوى المرجع. ومن المؤسف إن
بعض الفتاوى تخالف الشريعة
والأخلاق والمبادئ العامة, ومنها
تلك الفتوى التي أطلقها السيستاني
في موقعه الالكتروني والتي تحرم
زواج الشيعية من السني والشيعي من
السنية" خوفا من الضلال المبين"
كما جاء في الفتوى, وهي فتوى تكفر
للطائفة السنية التي تبلغ نسبتها
90% من مجموع المسلمين في العالم!
ومن المؤكد إن الفتاوى التي تكفر
الشيعة لا تقل بشاعة عن هذه
الفتاوى.
كشفت مرحلة الغزو حقيقة هؤلاء
الوعاظ وعرتهم ليس من عمامتهم
فحسب بل من ورقة التوت الأخيرة
التي يتسترون بها, إنهم عنوان
كبير للحقد والكراهية ويافطة
للعنصرية والطائفية ومنبر للخطب
التحريضية وبؤر للملاحم والفتن
وراية للاستبداد والتعصب, وآن لنا
أن نكنس هذه اللحى من حياتنا
ونطهرها من رجسهم الشيطاني,
ونتخلص من الفتاوى والممارسات غير
السليمة التي بدأت تتسلل إلى
جدران الدين الإسلامي لتنخر
بسقوفه تحت يافطة الشعوبية, فلسنا
بحاجة إلى هذه الطفيليات ونحن
نمتلك بيدنا اليمنى القرآن الكريم
وبيدنا اليسرى الأحاديث الشريفة,
لنتذكر دائما بان كلام الله أفضل
من كلام صنعه البشر. |