لا زلت أذكر ذاك اليوم الذي كنت
أقف فيه أنام أحد متاجر اللحوم
الخاصة بالدجاج تتوطنا نحن الثلاث
رجال امرأة في العقد الثالث من
العمر ذات ملامح فلسطينية ممسوحة
بلمسة جمال مكتسبة من الأرض ، هذه
المسحة التي توحي إليك بنظرات
للمتأمل بملامح الحيرة والترقب ،
أو الضعف الممزوج بالقوة ، لا
تدرك السبب وتتساءل بين نفسك عن
إيحاءات تجيبك عما تلمسه وتراه من
حيرة ورجفة ، فهل يكون سببه
توسطها ثلاث رجال ، أم العادات
والتقاليد التي تحيط بالمرأة في
غزة وتنظر إليها كعورة ، تحاصرها
بنظرات غير مألوفة ، أم شيء أخر
بفعل الظروف الخاصة لغزة وسكانها
؟
كل تلك المشاعر والأحاسيس مستنبطة
من حالة الحيرة ، والتلعثم
بالكلمات التي كانت تنطلق من شفاه
تلك السيدة ، ومن نظراتها ،
وكلماتها التي بالكاد تخرج ، ولكن
عندما اتضح الأمر سرعان ما كان
الرد علي هذه التساؤلات ، وكان
الجواب عن سبب هذه الحيرة
والارتباك .
نظرت هذه السيدة للبائع تطلب منه
( دجاجة) بوزن معين مشروط بأن لا
يتعدي العشرة شواقل (2.5دولار)
فعبر البائع عن حيرته من هذا
الطلب كما نظرنا نحن باندهاش ،
كونه من الصعب تحقيقه في ظل
ارتفاع الأسعار ، فسألها البائع
بحيرة وصوت خافت ألا يمكن أن يكون
أكثر من ذلك ؟ فكان الرد سريعا
وبارتباك لا يمكن بأي حال لأن كل
ما أملك عشرون شيقل (5 دولارات) ،
جزء منها لك والأخر لنوع من
الخضار لطعام الغذاء ، نظرت إليها
وكلي رغبة بأن أساعدها بجزء ولكن
لكونها امرأة في العقد الثالث من
العمر خشيت أن يٌفهم الأمر معكوس
فأثرت الصمت والترقب عما تسفر عنه
ردة فعل البائع ، فلم يعلق بل ذهب
وأحضر لها ما طلبت بكل هدوء مع
إدراكنا بأن ما أخذته يفوق بكثير
المبلغ المدفوع منها ، ففهمت أنا
والرجال أن البائع تصرف لوحدة ،
غادرت السيدة والدموع تكاد أن
تقفز من عيناها ، فشكرنا البائع
وعرضنا عليه تحمل باقي ثمنها لكنه
رفض قائلا ربما ما فعلته رحم هذه
السيدة من مصائب الجوع والحرمان
هي وأبنائها ، ويكون طوق نجاه لها
من شيء لا يحمد عقباه ، وقادتها
أقدامها لرجلُ يريد الله أن
يجازيه ويكافئه ، فصمتنا وأخذت ما
أريد وغارت المكان .
هذه الحادثة ما هي سوي نموذج مصغر
وبسيط من نماذج تعانيها المرأة
الفلسطينية التي احتفت قبل عدة
أيام بيوم المرأة العالمي الثامن
من آذار ، هذا اليوم الذي اعتبر
تكريما للأم والأخت والإبنه ، تلك
التي تمثل المجتمع وتعتبر أهم ركن
من أركانه ، وقائدة عملية التربية
وإعداد الأجيال للمستقبل ، وشريكة
الرجل بالحياة .
هذا الفرض يجب أن تكون عليه
الصورة الحقيقية للمرأة
الفلسطينية التي بدأت كتفا بكتف
مع الرجل في التصدي للاحتلال ،
ومجابهة مخططاته التي حاولت إذابة
الشخصية والهوية الفلسطينية ،
فتحدت وصمدت ، وشاركت سواء
بالمهجر أم بداخل الوطن .
بدأت ببناء المؤسسات المدنية
الهادفة للارتقاء بالواقع النسوي
الفلسطيني بكل معارك الثورة ،
وخاضت مسيرة النضال وساهمت
بفاعلية في تجسيد معني الانتماء
والكفاح ، ولا زالت تخوض قسوة
المعركة .
فالمرأة الفلسطينية أسقطت من
قاموسها التصور الخيالي الجسدي
الذي اصطبغت به صورة المرأة
وكينونتها ، ولم تسقط التصور
العاطفي الذي تنطلق منه وتبني على
قاعدته معاني الجمال الواقعي
بصورته البهية ، كما رسمته هذه
السيدة من خلال الثبات والمقاومة
أمام منطق الجوع الهادف للتركيع ،
والخضوع والتنازل ، اللغة التي لم
تفهمها ولم تتعلمها المرأة
الفلسطينية ، ولا تتقن فنونها
وأدواتها ، فهي تتقن بحرفية صناعة
الأمل ، وقيادة الحاضر ، وبناء
المستقبل ، ومجابهة معركة الأمعاء
والانتصار فيها .
إن الثامن من آذار في غزة وصمة
عار على جبين كل أصحاب نظريات
حقوق الإنسان والمساواة ، ودعاة
تحرر المرأة بما تمثله مواقفهم من
صمت موشح بعار ويدون بتاريخ اسود
سيلاحقهم أمام أُم جوعي لا تمتلك
سوي احتضان أطفالها وضمهم لصدرها
لتخفف عنهم صراخ الجوع والمرض ،
والألم ، إرادة نسويه تتعملق أمام
المحن .
تلك هي المرأة الفلسطينية التي
تزف الشهيد ، وتضمد الجريح ،
وتبني جيلا تلو جيل ليحفر بالصخر
ويدون اسم وطن محاصر ، يحاولوا أن
يقتلوه .
هكذا تحتفل المرأة الفلسطينية في
يوم الثامن من آذار في كل عام ،
وهكذا تخط رسائلها إلي العالم
المتحضر ومؤسساته .
تسقط المؤامرات وتصمد نساء غزة . |