برغم أن المجلس السياسي للأمن
الوطني ، هيئة دون سلطات دستورية
ملزمة ، فإن القرار الذي اتخذه في
اجتماعه في السادس من نيسان
الجاري ، بإلزام التيار الصدري
بحل جيش المهدي كشرط لاستمرار
قبول أوراق اعتماده في العملية
السياسية ، وقبول مشاركته في
الانتخابات المحلية المقررة في
الخريف المقبل ، يكتسب أهمية خاصة
ليس من حيث وجاهة دوافعها ، أو من
حيث قدرتها على اختراق الأسوار
العالية لجميع الكتل السياسية
التي لا يوجد طرف منها دون قوة
ردع مليشياوي ، وإنما لأن القران
من حيث جوهره يمثل أمنية للمواطن
العراقي في أن يستيقظ يوما فيجد
جميع شوارع المدن العراقية وقد
نزعت عنها أسلحة الرعب التي لا
تحصد إلا أرواح العراقيين ، تاركة
العدو المحتل يعبث بأمن المواطن
والوطن ويستأصل ما بقي من بناء لم
يطله التدمير . غير أن التوصيف
المنطقي لقرار المجلس السياسي
للأمن الوطني ، سيجد نفسه على
مفترق طرق مع الوقائع السائدة على
الأرض ، فليس من قبيل الدفاع عن
التيار الصدري ، أن نقول إنه ليس
الكتلة السياسية الوحيدة التي
تحتمي بدرع المليشيا كي تفرض
برنامجها ( هذا في حال كونها
تمتلك برنامجا وطنيا ) بقوة
السلاح وإرهاب الأطراف الاخرى ،
إذ أن جميع أطراف العملية
السياسية المعوّقة ، تقف فوق رصيد
عال من جثث ضحاياها من أي طرف لا
يتفق معها على زاوية النظر إلى ما
يبرز على السطح من قضايا ،
فالتحالف الكردي الذي يضم حزبي
جلال الطالباني ومسعود البرزاني ،
هو في حقيقته قوى مسلحة أي بعبارة
اخرى مليشيات مدججة بالسلاح ،
وقتلت مئات الآلاف من العراقيين
منذ أول رصاصة أطلقها مصطفى
البارزاني على قرية كردية من
عشائر اخرى ، أو على وحدة للجيش
العراقي في شمال العراق ، ثم
تقاتلت فيما بينها زمنا طويلا حتى
أخذها الإعياء فركنت إلى نقاهة
المحارب ، وما تزال تواصل النهج
نفسه في الكثير من مدن العراق تحت
لافتة حفظ الأمن فيها ، ومن
اللافت أن هذه القوة اسمها (
البيشمركة ) مستمد من معنى الموت
، وهذا يطرح تساؤلات جدية عن نوع
المجتمع الذي تصنعه مليشيا تقتبس
اسمها من الموت .
أما المجلس الأعلى ، فلديه
مليشيا منظمة باسم فيلق بدر ، تضم
في صفوفها حوالي 100 ألف عنصر ،
وتم تأسيسها في إيران ، وبعد
الاحتلال نقلت مقرها إلى العراق
لتنفذ برنامجا إيرانيا أكثر منه
عراقيا ، واستطاع بالفعل ارتكاب
آلاف الجرائم التي سجلت باسم جيش
المهدي أو باسم مجهول ، وأطلق
المجلس الأعلى لعبة لم تنطل على
أحد ، حينما زعم أنه حوّل فيلق
بدر إلى منظمة سياسية ، ذلك أن
أحدا لم يسأل أين ذهبت أسلحة فيلق
بدر بما في ذلك الأسلحة الثقيلة
التي كان يستعرض بها قواته في
المدن الإيرانية قبل الاحتلال ،
وحتى إذا سأل فإن جوابا شافيا لن
يتاح الحصول عليه أبدا .
أما الكتل الأقل شأنا والتي لا
تمتلك رصيدا عاليا في عالم
المليشيات كحزب الدعوة ، فلا يعود
ذلك لعفتها عن التعاطي مع هذا
النمط من السلوك السيا- عسكري ،
وإنما لضعف قاعدة الانتشار الشعبي
، فقد استعاض عنه ( بأملشة )
أجهزة الأمن الحكومية لخدمة خططه
الخاصة ما استطاع إلى ذلك سبيلا .
ولا يغير شيئا من الوقائع ، ما
يبذل من جهد للزعم بأن هذه
التشكيلات المسلحة قد تام
استيعابها في أجهزة الأمن التابعة
للدولة العراقية ، إذ أن هذا
الإجراء يحمل من المخاطر على وحدة
العراق ، أكثر بكثير من المنافع
المتوخاة منه ، فالتوجه الطائفي
أو العرقي الذي يختبئ وراء بنائها
يجعل من إمكانية تحويلها إلى أداة
وطنية ، أمرا في غاية الصعوبة إن
لم يكن مستحيلا .
على ذلك فإن قرار المجلس
السياسي للأمن الوطني ، يعد قرارا
غير متوازن بل ومتناقضا إلى أبعد
الحدود ، لأنه اقتصر على مليشيا
واحدة ، وأغفل عن عمد مليشيات
اخرى لا تقل خطرا وسوء عن جيش
المهدي ، إذ كان الموقف الأخلاقي
والمسؤولية القانونية للحكومة ،
يقتضي من المجلس أن يشمل تلك
التشكيلات جميعها وخاصة البيشمركة
وفيلق بدر بنفس قواعد العمل ، حتى
وإن كان ذلك غير ممكن من الناحية
العملية ، في ظل طبيعة التوازنات
التي رسمت مسار حكومات الاحتلال
وخاصة الحكومة الرابعة ، وحتى جيش
المهدي الذي تم الإعلان عن حله
بعد معركة النجف عام 2003 ، وبيع
أسلحته للجيش الأمريكي ، وتحويله
إلى منظمة سياسية ، كان في الواقع
يعيد تنظيم صفوفه ويتسلح بأسلحة
إيرانية أحدث من تلك التي باعها
للأمريكان ، وفي الوقت الذي كان
يعلن فيه نفسه جيشا عقائديا غير
مسلح ، كان يقوم باستعراضات
عسكرية في مناطق نفوذه التقليدي ،
ويخوض صراعا دمويا ضد حليفه
اللدود فيلق بدر لحسم الولاء في
المناطق المزدوجة .
إن من أوجد قيم الإجتثاث في
العراق ، هي القوى التي تعي جيدا
عجزها عن مواجهة التيارات
السياسية العريقة والعميقة الجذور
في الأرض العراقية ، ولهذا حينما
قاد الائتلاف العراقي الموحد
يعاضده التحالف الكردستاني ، حملة
الكراهية ضد حزب البعث العربي
الاشتراكي ، وقتل الآلاف من
مناضليه ، فإنهما كانا في واقع
الحال يمهدان لاستئصالهما من ساحة
العمل السياسي لاحقا ، ويعطيان
الحق والشرعية لكل من يمسك
بصولجان السلطة أن يستبعد من
طريقه من يشاء من القوى ، تحت أية
ذرائع متاحة ، فالتيار الصدري ومن
أجل نفي صلة الغالبية العظمى من
قواعده بجماهير حزب البعث ، اتخذ
مواقف غاية في التطرف والتشدد ضد
البعث ، وها هو اليوم يحصد أو
يوشك ثمار الخطيئة الأولى التي
كان له دور في المسؤولية فيها ،
حينما رفض منطق العقل والحكمة في
تعامله مع ملف إجتثاث البعث ،
وستواصل عجلة الإجتثاث دورانها
حتى تحصد كل الأطراف التي باركتها
، إلى أن يعود الزمن إلى أولى
لحظات تنفسه .
إن خمس سنوات من الاحتلال و
التي تقلب فيها العراقيون على
نيران من الظلم والقتل والتشريد ،
أكدت أن ما حاول العدو زرعه بين
أبنائه من ضغائن وإلباس قراراته
طابعا محليا ، ما كان لها أن تمر
لولا وجود قوى ارتهنت لإرادة
المحتلين ، واصطفت معهم على الضد
من رغبات الشعب العراقي ، رغم
الخسائر التي تكبدتها هي أيضا
سياسيا وأخلاقيا ، وأحرقت كل
أوراقها ، لصالح تحالفات دولية
وإقليمية ، لا يمكن أن تصمد أما
حقائق الأرض والتاريخ . |