في خطوة كانت متوقعة منذ زمن ،
شهدت بعض المساجد التي يتخذ منها
التيار الصدري ، منابر له في
بغداد والكوفة ، توزيع بيان منسوب
لمقتدى الصدر ، أعلن فيه قراره
اختيار العزلة لغرض اكتساب المزيد
من المعرفة الدينية ، بهدف التحرر
من الحاجة إلى مرجع ديني ، يرسم
له ولتياره المسار الفقهي ، على
نحو كان يحدث خللا مؤكدا بقدرته
على التحرك دون الرصيد القديم
لوالده ، بعد أن استنزف ذلك
الرصيد بل وصفّره تماما ، أو
التعكز على مراجع لا يجد فيهم ما
يلبي متطلبات نزعته المتوثبة لدور
سياسي ، يقفز فوق حقائق الفقه
الجعفري ، وهم بدورهم لا يجدون
فيه ( أي في الصدر ) ما ينسجم مع
قناعاتهم السياسية والفقهية ، بل
يخشون من تقلباته الدراماتيكية ،
والتي تأتي بصفة مستمرة على غير
المتوقع من الأفعال أو الردود
عليها .
وبصرف النظر عن دواعي قرار الصدر
في اختيار قم ، لإقامة امتدت منذ
آخر ظهور علني له في أيار / مايو
من العام الماضي ، ولزمن قد لا
ينتهي في الأفق المنظور ، فإن
البيان المختوم بختم الصدر ،
يستوقف المراقب بشدة فقد أكد بما
يقطع أي شك ، أن التهم التي كانت
توجه لقيادات متنفذة أو من الخط
الأمامي في التيار الصدري ، وكان
الصدر يدافع عنها بضراوة وينزهها
من كل عيب أو مثلبة ، أنها أصبحت
حقائق ثابتة بعد أن وجه لها
ادانات قاسية لم يكن ليقبل بأقل
منها فيما مضى ، فقد اتهمت زعامات
داخل هذا التيار بالأنانية
والوصولية وحب الذات وتفضيل
المصالح الشخصية ، ولهذا قادت
التيار وجيش المهدي إلى منزلقات
خطيرة .
هذه الاتهامات لا بد أن تطرح
بإلحاح إشكالية التيار الصدري
وجيش المهدي ، من أعلى قيادة له
وحتى أدنى مستوى منتم إليه ،
وفيما إذا يمتلك الأهلية المطلوبة
للحصول على شرعية العمل العلني ،
على حين تلاحق جهات تحت طائلة
مكافحة الإرهاب ، لم ترتكب عشر ما
ارتكبه جيش المهدي من جرائم إبادة
جماعية و قتل على الهوية وتهجير
للسكان من مناطقهم .
لقد نشأ التيار الصدري في بداياته
من مواد متحللة من مختلف الطبقات
الاجتماعية والحركات السياسية ،
ولعل الكثير من عناصره وحتى في
المستويات القيادية ، هي التي
احترفت على الدوام مهمات الوكالة
الرخيصة للأجهزة الأمنية ، فأرادت
باختيارها الانتماء لهذا التيار ،
هذا الصنف من العمل المرفوض
اجتماعيا ، مواصلة هواياتها
المريضة ، أو حماية نفسها من
الوسط الاجتماعي الذي تنتمي إليه
، أوتظن أنه يمكن أن يستهدفها في
حال بقائها مكشوفة الظهر ، وتوسع
حجم الكتلة الشعبية الهلامية
للتيار الصدري ، على نحو لم يكن
متوقعا حتى من أكثر المراهنين
عليه ، وهذا ما أغرى قياداته
بتجاهل كل دعوات الركون إلى
الحكمة والعقل في قيادة الوسط
الشعبي المنفلت ، ومضت في طريق
تحدي الأطراف الداخلة في العملية
السياسية ، ممن يمتلك ثقلا
مليشياويا مماثلا في حجمه وأكثر
تنظيما في أدائه ، وهنا برزت على
السطح ظاهرتان متناقضتان تماما في
العلاقة بين التيار الصدري
والمليشيات الاخرى ، وخاصة مليشيا
فيلق بدر التابع للمجلس الإسلامي
الأعلى :-
الأولى : - صراع حاد على النفوذ
بين القوتين ، في مناطق تمتد من
بغداد لتصل إلى البصرة ، لعل
أكثرها دموية ما حصل في معركة
النجف عام 2004 ، والتي دخلت
القوات الأمريكية المعركة لصالح
حليفها المجلس الأعلى ، وكان من
نتائجها أن أعلن مقتدى الصدر
وبانكسار لافت ، عن تحويل جيش
المهدي إلى منظمة سياسية ، بعد أن
نزع أسلحته وسلمها للقوات
الأمريكية مقابل أموال ، في مشاهد
مهينة نقلتها معظم الفضائيات ،
ولم تقف المواجهات عند هذا الحد
حتى أرغم الصدر على دخول العملية
السياسية وبالتقسيط ، ولكن هذا
الدخول لم يشكل المظلة التي أراد
بها الصدريون الإمساك بخيوط
اللعبتين ، لعبة السياسة ولعبة
العنف ، إذ اتسع نطاق صراع النفوذ
في معظم محافظات الفرات الأوسط
والجنوب ، فقد انطلقت عناصر جيش
المهدي بكل ما تحمل من قوة وآمال
بالسيطرة على الشارع الشيعي ،
لتعصف بالاستقرار الظاهري الذي
عاشته تلك المحافظات ، وعندما
وقعت مواجهات كربلاء التي أدت إلى
قتل العشرات وإشعال حرائق كبيرة
قرب المراقد الدينية ، أضطر مقتدى
الصدر لتجميد جيش المهدي لمدة ستة
شهور ، وهو نفس الجيش الذي كان قد
حله بعد معركة النجف وحوله إلى
منظمة سياسية ، والتهبت المحافظات
بصدامات دموية ، لم يكن جيش
المهدي وفيلق بدر طرفيها فقط ، بل
دخلت القوات الأمريكية مرة اخرى
ضد جيش المهدي وكذلك أجهزة أمن
حكومة المالكي ، والذي يمتلك هو
الآخر مليشيا آخذة بالنمو وتتبع
جناح حزب الدعوة الذي يتزعمه .
الثانية : - تجنيد لقطاعات واسعة
من عناصر جيش المهدي من قبل فيلق
بدر وأجهزة الأمن ، لتنفيذ جرائم
ابادة جماعية طالت مناطق محددة في
بغداد ومحيطها خاصة ، وذلك بهدف (
تطهير ) هذه المناطق والتخلص من
طابع الازدواج السكاني من جهة ،
وتلويث سمعة التيار الصدري وجيش
المهدي لارتكابه جرائم حرب ضد
الإنسانية ، وعزله عن حالة
التعاطف التي تكونت له بعد رفعه
شعارات مضادة للاحتلال ، كما أن
دخول إيران على خط الفعل المؤثر
على مستوى أداء المليشيات الفاعلة
في الساحة العراقية ، وزجها
بالآلاف من عناصر قوة القدس
والحرس الثوري ، لم يكن ليسرها
رؤية أية قوة تخرج على خططها ، أو
تنفذ مشروعا ذاتيا بعيدا عن
المشروع الإقليمي الإيراني ،
ولهذا كان من الطبيعي أن تدخل
طهران على خط رسم المسارات بشكل
دقيق ، لا يسمح بخروج أي خيط من
يدها تحت أي ظرف من الظروف ، فكان
الحديث عن عزلة مختارة أو مفروضة
على مقتدى الصدر ، الذي بدأ يتحول
إلى قوة سالبة لكل المكاسب التي
توقعت إيران أنها حققتها في
العراق أو هي على وشك تحقيقها .
فهل جاء القرار بإرادة إيرانية
بدرية ؟ أم هو قرار إيراني لا
يريد رؤية أهدافه تضيع بتصرفات
نزقة لمراهقين في عالم السياسة ؟
وهل يؤدي ذلك إلى شرذمة التيار
الصدري وتوزيع عناصره على القوى
الأكثر تنظيما ؟
وأهم من كل هذا وذاك هل أن مقتدى
الصدر ما زال موجودا على مقاعد
الدراسة حقا ؟ |