رحم الله أيام زمان، الزمان الذي
لم تكتحل فيه عيون الطلائع
الشابة، ذلك الزمان عندما كانت
الفكرة القومية العربية تنمو
وتكبر، الزمان الذي تآمرت على
إلغائه أكثر القوى التي تنشد وداً
مع الأممية. تلك الأممية التي
اختلطت خنادق تياراتها بين اليمين
واليسار بين الديني والعلماني،
بين الاشتراكي والرأسمالي.
لكل أمميته، وعولمته، التي
فصَّلها على مقاييس مشاريع
إيديولوجية سياسية صاغها وأعلنها
على مقاييس النخب التي تقودها،
إلاَّ أن أحداً منها لم يُظهر
الود تجاه تيار قومي جنين ابتدأ
يحبو على الأرض العربية من إعلان
تأسيس حزب البعث العربي
الاشتراكي، ووصول الناصرية إلى
أول حكم سياسي في مصر، أعلن كل
منهما بالفم الملآن أنها ثورة
عربية، وستبقى عربية، وستكون
الصورة الأمثل لشعب عربي تآمرت
على أحلامه، وضعت العوائق
والمفاصل التي لا تزال تحول دون
أمنياته منذ أكثر من ستين عاماً
ولا تزال.
لقد نسي، أكثر المعاصرين لمرحلة
امتدت إلى أقل من عشرين عاماً، أو
تناسوا، أن هناك حلماً واعداً
بالخير يُشرق عصره على بوادي
الأمة ورواسي جبالها، فراحوا
يمحون ذاكرة المعاصرين الأوفياء
من حلم ناضلوا من أجل تحقيقه
وتطبيقه، ولو بعد حين.
لقد كان المخططون من المنتفعين في
الداخل العربي، والمخططين
للاستيلاء على الوطن العربي،
يعرفون خطورة أن تستمر الفكرة
القومية في الانتعاش والتمدد،
فتكاثفت الأيدي وتكاثر العدو،
وقلَّ النصير، وهذا ما أثلج، ولا
يزال يثلج، قلب كل التيارات
والقوى والقوات والجماعات التي
تعمل تخريباً ثقافياً وفكرياً
وإيديولوجياً، في الخارج والداخل.
لم تقف الدعوة القومية عند حدود
التبشير والتنظير، بل أخذت تشق
طريقها بسرعة في الضغط لبناء
مؤسسات رسمية عربية على شتى
الصعد، وكان من أهمها تطوير أهداف
الجامعة العربية، فنشأت مؤسسة
القمة العربية التي أخذت ترعى
المؤسسات المنبثقة عنها،
كالمؤسسات الاقتصادية والثقافية
والعسكرية، التي كان يشعر
بتأثيراتها الإيجابية كل العرب من
المحيط إلى الخليج.
قد يقول البعض إن تلك المؤسسات لم
تكن تلبي الحاجة العملية لوطن
عربي تمتد حدوده من المحيط
الأطلسي إلى الخليج العربي، وينظر
البعض الآخر إلى الإخفاقات ولا
يعير اهتماماً للنجاحات. فتحول
النقد عندهم إلى الردح، ولم يضعوا
حصيلة عشرين عاماً في موازين مئات
السنين من التخلف والفقر والخضوع
للاستعباد والقهر والاستنزاف...
بل انبرى العدد الأكبر من بينهم،
عن سابق تصور وتصميم وتخطيط، إلى
الابتعاد عن درس مرحلة العشرين
عاماً من تراكم قلَّ نظيره في أمة
لم تعرف إلاَّ الفرقة والتشتت
والاستقواء بالخارج، بل كانوا
حريصين على الدعوة إلى نبذ
الانتماء إلى أمة كان لها تاريخها
الطويل الذي لعب دوراً مفصلياً في
تاريخ الحضارة الإنسانية.
كانت القومية العربية كمثل
الأيتام على مائدة سلسلة طويلة من
اللئام. وكانت أول خطوة كبرى
استخدمتها تلك التيارات، وكان في
المقدمة منها الاستعمار
والصهيونية، هي ما أطلقوا عليه
هزيمة حزيران من العام 1967.
وإذا كان الاستعمار الأميركي
والصهيونية العالمية، قد خططوا
للحرب المذكورة. وكانوا يعلمون،
على حسابات موازين القوى النظامية
، أن الهزيمة العربية واقعة لا
شك، فإنما كان الهدف الأساسي هو
إيصال الشعب العربي إلى حافة
اليأس والقنوط. وقد أوصلوا أكثرية
الشعب العربي إلى مثل تلك
البداية، باستثناء من لم يتسرَّب
اليأس إلى نفوسهم، من الذين كانوا
يضعون بدائل أخرى لمواجهة التحالف
الصهيوني والأمبريالي الأميركي،
تلك القوى التي لم تكن تنظر إلى
أن المواجهة بين الأمة وأعدائها
تخضع لحسابات عسكرية نظامية في ظل
اختلال موازينها، بل اعتبرت أن
قوة الأمة العربية تكمن في إرادة
الشعب العربي للتحرر بكل الوسائل
والسبل، وتأتي في مقدمتها وسيلة
الكفاح الشعبي المسلَّح.
وإذا كانت نقطة البداية في تحويل
مسارات الدعوة القومية قد انطلقت
من حرب حزيران النظامية، تلك التي
خططت لها الولايات المتحدة
الأميركية والعدو الصهيوني، فإنما
تلقفت القوى العربية المعادية
للفكر القومي تلك النتائج ووظفتها
في آلتها الدعائية والدعوية،
وكأنه كان ينقصها أن تُسقط
الأنظمة القومية ومن بعدها الفكر
القومي أولاً لتظهر قوتها
الإيديولوجية الذاتية ثانياً.
بعد الإسقاط العسكري لأول تجربة
قومية في الخمسينيات والستينيات
من القرن العشرين، جاء دور إسقاط
كل ما حققته من إنجازات، وفي
المقدمة منها إسقاط المؤسسات
العربية التي نشأت في ظل جامعة
الدول العربية. فبدأت في الرأس،
أي مؤسسة القمة، وأفرغتها من
مضمونها تدريجياً، إلى أن بلغت
أوج مستوى هزالتها عندما خضعت بعض
الأنظمة للإملاءات الأميركية ودعت
إلى قمة استثنائية، في العاشر من
آب من العام 1990، وفيها برَّرت
وغطت مخطط العدوان الثلاثيني على
العراق في العام 1991.
فكانت القمة العربية الاستثنائية
تلك، التي بالكاد وفَّرت للموافقة
على قراراتها أكثرية النصف زائداً
واحداً، لتعطي أول برهان حقيقي
على المستوى الانهزامي الذي بلغته
بعض أنظمة العرب الرسمية. فأصبحت
مؤسسة القمة العربية، منذ ذلك
التاريخ، قمة ليست مُفرَغة من
المضمون فحسب، بل تُصاغ قراراتها
في مطابخ السي آي إيه أيضاً، ويتم
تبليغها لبعض الأنظمة الرسمية
لتسويقها والدفاع عنها والتوقيع
عليها، وإصدارها في بيان صادر عن
العرب، والعرب منه براء.
كما تحولَّت حركة الجامعة العربية
إلى حركة شكلية لا تستطيع فيها
أيضاً أن تتخذ مبادرة ما تستطيع
أن تفرضها، وهي تتحرك بفعل وقود
تتزوَّد فيه من عدد محدود من
الأنظمة، التي بدورها تتلقى كلمة
السر من أولياء نعمتها. وهي إذا
حاولت أن تضفي بعض الخصوصية
العربية أو الوطنية على القضايا
التي تزعم أنها تهتم بها، فسيكون
قرار إيقاف حركتها بعوائق لا تخفى
على أحد.
ومنذ ذلك التاريخ، وبعد أن باعت
بعض الأنظمة العربية مضمون القمة
بثمن بخس، راحت تقاوم للمحافظة
على الشكل. والشكل لم يتجاوز
الاجتماع الروتيني. وحتى مثل هذه
الاجتماعات تحوَّلت إلى منابر
لتصفية كل الحسابات الفردية
بينها، وتبقى القضايا الأساسية
الغائب الأكبر عن اهتماماتها.
ونتواجه الآن بمسألة انعقاد القمة
العربية في سورية. ومن ملابسات ما
يجري، وما يُحاك في كواليس
التحالف النظامي العربي
والاستعماري، نخلص إلى عدد من
النتائج التي لا توحي بالخير، ومن
أهمها:
-سوف تغيب القضية العراقية ولن
تلقى اهتماماً يُذكر على الرغم من
كل آلام الشعب العراقي ومعاناته
تحت الاحتلال. والأسوأ من ذلك أن
من سيمثل العراق في القمة الشكلية
عملاء للاحتلال الأميركي.
والزعماء العرب إذا كانوا يزعمون
أنهم سيقدمون الدواء إلى العراق
فإنما سيعالجون المرض بعقاقير
الذي كان السبب. وهل يقدِّم
العلاج للعراق من تواطأ وخان
وأسهم في الاحتلال والتدمير
والسرقة والتقسيم وتعميم الفتنة؟
وهل تتجرأ الأنظمة وتصرخ في وجه
من سيأتي لتمثيل العراق وتطلب منه
تقديم المغفرة لقاء خيانته لوطنه،
أو أنها ستصرخ في وجه الإدارة
الأميركية، على الأقل كما يفعل
الشعب الأميركي، وتطالبه بالخروج
فوراً من العراق؟
-وهل ستتجرأ القمة الشكلية وتعترف
بأن المقاومة العراقية هي الممثل
الشرعي والوحيد للشعب العراقي؟
وإنه من دون هذا الاعتراف لا
يمكنها أن تفصِّل ثوب العراق على
مقاييس الاحتلال وعملائه؟ أم أن
ما نطالب به سيكون عبثياً لأن
الأنظمة المرتبطة مضموناً
بالقرارات الأميركية هي أكثر من
عاجزة عن القيام بذلك؟
-وهل ستتجرأ القمة الشكلية من
المساعدة على لجم العدو الصهيوني
من الاستمرار في تجويع قطاع غزة،
وإيقاف حمام الدم الذي يروي فيه
أطفال غزة أرضهم بدمائهم وحياتهم؟
-وهل ستتجرأ القمة العربية على
الصراخ في وجه كل الذين ارتهنوا
القرار اللبناني عبر وسائطهم
المحلية وتقول لهم: إرفعوا أيديكم
عن لبنان. إن العرب وحدهم الممثل
الشرعي والوحيد لشعب لبنان، ولا
حلول للقضية اللبنانية بمعزل عن
القرار اللبناني المستقل، وإن
احتاجوا إلى مساعدة فليس غير
الظفر العربي الشقيق، الظفر الذي
تمرَّد على ثنائية التابع
والمتبوع، هو الذي عليه أن يحك
الجلد اللبناني؟
إذا كان ما نرفعه سيكون عبثياً،
لأنه لا يمكن لمريض أصيب بداء
التبعية للخارج، أن يداوي مريضاً
آخر أصابه داء التبعية أيضاً.
ولكن ما نتوقعه من نتائج مخيبة لا
يبرر أن نخفت صوتنا، بل أن نرفعه
ونجهر به، فمن غير الجائز أن
يستكين نظامنا العربي الرسمي في
فراشه، بل يجب أن تبقى طبول رفضنا
لسوء أدائه تصم أذنيه، لعلَّ
وعسى.
إن رفضنا لا يقوم على أساس قل
كلمتك وأمش. بل هو رفض قائم على
الاستمرار بالمقاومة والكفاح
الشعبي المسلح، وهو السبيل الوحيد
الذي أثبت نجاحه، كما هو السبب
الوحيد الذي يقض ليس مضاجع
الاستعمار الأميركي والصهيونية
فحسب، وإنما يشكل الأرق لكل نظام
عربي استكان واستسلم لإرادتهما
أيضاً.
فهل يبادر رواد المقاومة العربية
إلى تأسيس قمة عربية يقودها
المقاومون من الخنادق؟
إن الأمر ليس بعسير المنال، وإلى
أن تتحقق الأمنية، نرى بأن
المقاومين مستمرون بمساراتهم
الصحيحة، فبوركت الأيدي والسواعد،
وإن غد انعقاد قمة للمقاومة
العربية لقريب. |