الحصار لغزة الذي تواصل تصعيديا
بقطع امدادات الوقود، الغذاء
والدواء عن القطاع لفت النظر بعد
ايام من الحراك الشعبي الى حالة
الوضع العربي مرة اخرى، والى
السياسة المتبعة من قبل النظام
الرسمي العربي لتجاوز مثل حالات
الاحراج هذه، عبر وسائل كلاسيكية
يتم استخدامها بنجاح كل مرة تعيد
المزاج الشعبي الى ماكان عليه-
الاهتمام بنمط العيش، الخدمات
والمشاكل الفردية الداخلية!
وا معتصماه.. ممنوع من الصرف
فبعد تأخر اي تصريح رسمي -يتوقع
منه طبيعيا الاستنكار على الاقل،
بدا واضحا ان ما يشغل القيادات
العربية أمر أهم مما يحدث ويمكن
ان يصل اليه في فلسطين وغزة
تحديدا، التي تسير النظام فيها
حكومة غير مرحب بها عربيا ودوليا،
بسبب ما يقال عن كونها جاءت بعد
انقلاب على "شرعية" السلطة في رام
الله المرحب بها دوليا وعربيا وفق
ما بات يسمى "الشرعية الدولية"،
بعد أن استحوذ على اهتمامها تصاعد
وتيرة الصراع في لبنان بين الاياد
الدولية المنقسمة بتأثرها بين
الولايات الامريكية، وبين ايران،
وثالثة اتخذت الحياد مصحوبا
بالقلق مما قد يؤل اليه النفوذ
هناك، لتجد دول ما يسمى بالاعتدال
العربي –التعريف الامريكي للدول
الموالية لها- في دعوات عقد قمة
عربية طارئة المنفذ لها لإعتماد
اعلى درجات الحلول في مثل هذه
الحالات لمواكبة المزاج الشعبي،
ليس لنصرة غزة كما يفترض، بل لسحب
البساط من تحت دمشق التي ستستضيف
القمة العربية العادية المفترض
عقدها في آذار القادم، وهو ما
سيجعل عقد القمة في موعدها
مستبعدا.
أما لماذا نفترض ان القمة
الطارئة وان اتخذت من غزة عنوانا
فهي ليست عمليا لنصرتها، فهذا لأن
موعد تلك القمة الطارئة سيكون
نهاية شباط، اي بعد أكثر من شهر
على التصعيد في الحصار، والذي بات
يعني ان انقضاء كل ساعة فيه تعني
رحيل شهيد آخر اما بسبب افتقاد
الدواء او لأي علة يكون سببها
الحصار وانقطاع المواد الاساسية.
علاوة على أن الوضع الاقتصادي
العربي والمرتبط سواده الاعظم
بالدولار الامريكي والبورصة
الامريكية بأنواعها، يعاني ترديا
بسبب ما أمست عليه الاحوال
الراكدة امريكيا، خاصة مع محاولات
الدول البترولية تخفيض سعر برميل
البترول الذي أثر عكسيا بالدولار،
وكلها عوامل تجد فيها تلك الدول
استراتيجيا ذات اولوية، لا يمكن
التغاضي عنها، بعد أن أكد أهدافها
بوش في زيارته الاخيرة للمنطقة
وهي التي تضع على المحك ضمنيا
استقرار تلك الدول التي تعتقد أن
ثباتها مرهون بإبتسامة بوش.
وعود عاصفة
بالمقابل كان هناك طرف عربي اساسي
لا يمكن اغفاله، فرض بصمته على ما
تتعرض له وسيصل اليه القطاع
الفلسطيني، فقد شكل الخطاب الاخير
للامين العام لحزب الله السيد حسن
نصر الله زوبعة سياسية بعثرت الى
حد ما بعض تفاصيل الخطط الأمريكية
والصهيونية في المنطقة، وربما
شكلت حاجزا ما امام المزيد من
التصعيد على جبهة غزة، خاصة بعد
ردود الفعل المشدوهة على الصعيد
السياسي والشعبي الصهيوني، وهو ما
ألقى بظلاله على حالة الترقب
العام لما سيحمله التقرير الختامي
للجنة فينوغراد عن حرب تموز، وما
يتوقع منه ان يطيح بحكومة اولمرت،
التي حاول رئيسها استباق التقرير
بتصعيد تجاه غزة في محاولة لكسب
تأييد المستوطنات وقطاع واسع من
السياسيين وقادة الجيش، الا ان
حديث نصر الله عن اشلاء جنود
صهاينة هدف منها كما يرى محللون
اعادة الحياة الى المسار
التفاوضي، ثم تهديده الواضح
والصريح للجيش الصهيوني بأنه لن
يسكت على الاعتداءات المتكررة على
الجنوب –وهو الذيي يحطى بمصداقية
عالية لدى الجمهور الصهيوني- أعاد
بلا شك حسابات القيادة
الاسرائيلية لتوازن بين اولوياتها
ان كانت بالاستعداد سياسيا
وعسكريا لمواجهة اخرى مع الشمال،
ام الاستمرار في التصعيد تجاه
غزة، في حين ترى الادارة
الامريكية ان وضع حلفائها في
لبنان لم يعد مشجعا بعد خطاب
عاشوراء، الذي تقصد حزب الله من
خلاله توجيه العديد من الرسائل في
اتجاهات متعددة، بدءا من التنظيم
الحاشد والمنضبط، مرورا ببروز
امينه العام المختفي منذ اشهور من
وسط الجماهير دون خوف من
الاغتيال، وليس انتهاءا بالخطاب
الناري وما تبعه من ملحقات من قبل
قيادات الحزب.
بيد الشيطان
فلسطينيا الحال لم يختلف كثيرا،
وهو المتأثر دائما بالتباينات
الدولية، والاستقطابات العربية
منذ نشوء منظمة التحرير بمبادرة
عربية عام 64، الا انه هذه المرة
حمل مفاجئات من ناحية مستوى
العدائية الداخلية بين قطبي
الصراع الفلسطيني، لم تصل اليها
في اشد حالات الخلاف الفلسطيني
الداخلي. فلأول مرة يتحالف طرف
فلسطيني ما مع سياسة الاحتلال
بهذه العلنية ضد طرف فلسطيني آخر،
وهو ما يشير الى حالة من انعدام
التوازن الوطني، والخلل في تركيبة
البناء السياسي، عبرت عنه أصوات
داخل حركة فتح، بدءا من الشماتة
باستشهاد ابن محمود الزهار، مرورا
بتحميل حركة حماس مسؤلية الحصار
وحتى الشعب الذي انتخباها، الى
وصف الفلسطينيات اللائي تجاوزن
بوابة رفح في مسيرتهن الثلاثاء
الماضي بأقذع الصفات، وليس انتهاء
بإعتبار ان "هناك مبالغة في وصف
حالة الحصار في غزة واعتبار ان
الاوضاع ليست بذلك السوء" وهي
للمتابع ليست مجرد اصوات غوغائية
تصدر هنا او هناك، بل أمسى جليا
انها ضمن أجندة وسياسة مدروسة ضمن
الحملة الاعلامية، النفسية
والسياسية ليس على حماس وحسب بل
وعلى جماهير القطاع، في تماهي غير
مبرر مع أهدف العدو في ذات
المجال، عبرت عنها معظم المواقع
الالكترونية والجرائد وتلفزيون
فلسطين التابعة لفتح.
هذه الحالة الانهزامية لسلطة رام
الله لا تنفصل بطبيعة الحال عن
الحالة العربية عموما، التي أخذت
جرعة مضاعفة بعد زيارة بوش
الاخيرة للتأكيد على مقررات
انابوليس، عبر عنها بوضوح مختصر
عزام الاحمد رئيس كتلة فتح في
المجلس التشريعي قائلا في تعليقه
على احداث غزة على فضائية المنار
اللبنانية أن "كل شيء بيد اسرائيل
حتى الهواء، وأننا –السلطة في رام
الله- لا نخجل من القول اننا
نتعامل مع اسرائيل، لأن ماهو غير
ذلك غير منطقي" وفق ما قاله
الاحمد مساء الاربعاء الماضي.
"اليسارية" الذيلية
اما على صعيد باقي المنظمات
الفلسطينية خاصة تلك التي تشكل
منظمة التحرير الفلسطينية خاصة
ذات التوجه اليساري، فلم يطرأ اي
جديد على مواقفها التي هي غدت بعد
اوسلو لا تمثل رأيا جذريا مستقلا
بقدر ما تكون تابعة لهذا الاتجاه
او ذلك، وفصائل المنظمة اتبعت ذات
البراغماتية بالانحياز الى سلطة
الرئيس عباس ضد حماس، فيما اختارت
البقية بما فيه جبهة القيادة
العامة، الجهاد الاسلامي وحماس
أخذ صفة الاحزاب المعارضة عبر
تبنيها مؤتمر دمشق الذي بدأ
اعماله صباح الاربعاء، والذي جاء
تحت شعار الوحدة والوطنية والدولة
الفلسطينية على حدود 67، في اشارة
هزلية سياسيا للمعارضة الصالونية،
فرغم مناداتها المستمرة
بالمقاومة، الا انها تتبنى ذات
السقف الذي بنيت عليه اوسلو وظهرت
عليها السلطة الفلسطينية التي
طالما نددت بها تلك الفصائل، فيما
تروج للجماهير عدم اعترافها
بالكيان الصهيوني، واستمرار
المقاومة، وهي كما يرى المحلل د.
ابراهيم علوش حالة لا تختلف كثيرا
عن أحزاب المعارضة العربية، ما
يدخلها في باب النفاق السياسي،
الذي يحاول حمل اكثر من بطيخة في
يد واحدة –المقاومة المسلحة حتى
التحرير والاعتراف الضمني بوجود
الاحتلال.
النصر ممكن ولكن..
"اسرائيليا"، كشفت المقاومة
والصمود في غزة عن هشاشة الموقف
الاسرائيلي، وقصر نفسه في
المواجهات طويلة الامد، وما
التصعيد الوحشي الذي قام به
الاحتلال لخنق القطاع حتى وصل
الامر لقطع كل اسباب الحياة عنه
–عدى الهواء- الا دليل على فشل
استراتيجية الاغتيالات والضغط
السياسي وقطع الارتباط مع القطاع
لإسقاط حماس ومشروع المقاومة
هناك، ومن نافلة القول ان
الصواريخ الفلسطينية –على عكس ما
يقال عن عبثيتها- الاخذة بالتطور
قد أثبتت صدارتها كسلاح استراتيجي
زلزل الكيان السياسي للإحتلال
وفكك فكرة التناغم الشعبي فيه بعد
ما حصل في مستوطناته الجنوبية،
الى الدرجة التي بات فيها وجود
اولمرت مرهونا بإيجاد حل لتلك
الصواريخ، مقابل عدم الضغط عليه
كثيرا بعد تقرير فينوغراد المرتقب
والمهدد بوضوح لولمرت، وقد راهن
اولمرت على التغاضي الدولي عما
سيكون في غزة، في حين يراهن على
الزمن الذي سيرهق فيه الفلسطينيين
لإسقاط حكومة حماس، ضمن
استراتيجية لن تغفل ايضا
الاغتيالات والهجمات الدموية، وهو
ما أثبت فشله حتى الان، ويتوقع ان
يؤدي فعليا الى رحيل اولمرت، بل
وتأثير جذري في السياسة
الاسرائيلية التي اثبتت مرارا
انها لا تفهم الا لغة القوة، وكان
أخرها حرب تموز في لبنان التي
جرتها الى طاولة التفاوض لتحرير
الاسرى، والتي عادت بعد خطاب نصر
الله لتعطي غزة وقتا تأخذ نفسها
فيه.
لقد دفعت غزة طوال سنوات الصراع
العربي الصهيوني الثمن الاعلى
مرارا، وهي اليوم تستمر في ذات
الايديولوجيا الشعبية المقاومة
التي تبنتها فطريا، وهو ما يمكن
الرهان عليه، في حال واحد وهو عدم
تخلي العرب عن الشعب هناك، الذين
سيشكل صمودهم ورقة قوة لكافة
الدول العربية أكثر مما قد تفعله
عشرات الابتسامات من بوش، او
خبراء الاقتصاد والسياسة
الامريكيين. |