كثيرة هي المرات التي أستبيحت به
أجواء العراق وأراضيه ، منذ
الاحتلال وحتى الآن ، وذلك حينما
كان كبار المسؤولين الأمريكان ،
يحطون رحالهم في مدنه دون استئذان
، وعلى نحو يفاجئ من يعتبر نفسه
مسؤولا حكوميا ، في عراق ما بعد 9
/ 4 / 2003 ، فيهبون دون إبطاء
للالتحاق بركب المستقبلين ، قبل
أن تحل عليهم نقمة من جاء بهم ،
ووزع عليهم الكراسي .
دونالد رامسفيلد وزير الدفاع
السابق ، ومهندس غزو العراق ،
طالما هبطت طائرته دون إشعار مسبق
، ثم يقضي سويعات ويرحل دون أن
يتمكن من تعديل الحمل المائل حد
السقوط ، وكذلك فعل رئيسه جورج
بوش الثاني ، وصديقتهما كوندا
ليزا رايس وزيرة الخارجية .
ولكن الزيارة الأخيرة لخليفة
رامسفيلد ، روبرت غيتس وزير
الدفاع الأمريكي الحالي ، والتي
حملته من أفغانستان إلى بغداد
مباشرة ، حملت مدلولات كثيرة
ومتباينة معا ، إذ حذر في كابل من
أن حلف شمال الأطلسي ( الذي فقد
مبرر استمراره بعد انهيار الاتحاد
السوفيتي والكتلة الشيوعية
السابقة ) ، يوشك أن يتصدع نتيجة
عدم التزام أعضائه ، بما تمليه
عليهم متطلبات الحرب في أفغانستان
، ويبدو أن كل دولة عضو في الحلف
، تمرر أي قرار لدعم وجودها
العسكري في أفغانستان ، بأكثر من
فلتر سياسي واقتصادي ، خاصة بعد
أن برهنت حركة طالبان ، على
قدرتها على إفشال الخطط العسكرية
للحلف ، وما يمكن أن ينجم عن أي
زيادة في حجم تواجدها العسكري من
تزايد لحجم الخسائر البشرية
والمادية .
فالدول المشاركة في الجهد الحربي
للحلف هناك ، لديها تحفظات جدية
على السياسة الأمريكية التي ورطت
التحالف الغربي في حربين عبثيتين
في وقت واحد ، جعل من المستحيل
كسبهما ، فالمأزق العميق في
العراق ، أدى إلى تشتيت الجهد ،
وإضاعة البوصلة وجعلت القوات
الأمريكية تنتقل من مستنقع إلى
مستنقع أكبر من مزيج الدم والوحل
، ولما كان العراق مركز استقطاب
عالي الإغراء لنوايا الهيمنة
الأمريكية ، ورأس جسر إستراتيجي
للعبور إلى الأهداف الاخرى في
منطقة الشرق الأوسط ، ومنطلقا
للقفز نحو تنفيذ الصفحات المتبقية
من المشروع الأمريكي الكوني ، فقد
ظنت الولايات المتحدة أن نجاحها
السريع في أفغانستان ، سيكون ملحا
من أجل إدامة الزخم ، في فرض حالة
من الهلع والرعب على مستوى شعوب
الأرض ، ضمن خطة الصدمة والرعب
التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية
في عهد بوش الثاني ، ثم أن العراق
وعلى وفق تقديرات الولايات
المتحدة ، وعاء ملئ بالثروات
القادرة على تأمين متطلبات الحرب
عليه ، وسائر الحروب الأمريكية
اللاحقة ، فمغناطيسية العراق
أشرته منذ زمن بعيد هدفا ، ليس
عند الولايات المتحدة فقط ، وإنما
عند كل الإمبراطوريات السابقة
والتي يمكن أن تقوم لاحقا .
وترى دول حلف الأطلسي ، أن
الولايات المتحدة لم يعد بوسعها
أن تضيف إلى جهدها الحربي في
أفغانستان شيئا ذا قيمة ،
وبالتالي تريد من حلفائها النهوض
بهذه المهمة ، لأنها أصلا كانت
ترنو ببصرها نحوهم لدعم مجهودها
الحربي في العراق ، ولكن أقرب
حلفائها قرروا إنقاذ جنودهم من
المصير المحتوم قبل فوات الأوان
كما حصل لأكثر من دولة ، وآخرها
استراليا وبريطانيا ، وهذا ما
فاقم من المأزق الأمريكي في
العراق ، في وقت كانت تتحدث فيه
عن قرب الشروع بسحب جزئي لقواتها
من العراق ، وحتى في هذا الادعاء
فإن البنتاغون تمارس تضليلا صاخبا
، إذ أن الولايات المتحدة كانت قد
عززت وجودها العسكري في العراق ،
في شباط الماضي ، بثلاثين ألف
جندي ، تم جلبهم بعد وعود قاطعة
لهم بإمتيازات مادية وضمانات
اجتماعية واسعة ، والحديث عن
انسحاب أمريكي ينصب على هؤلاء فقط
ولا يتعداهم إلى أصل القوة
الأمريكية العاملة في العراق ،
فالوزير الأمريكي ومعه قائد
القوات الأمريكية الجنرال بترايوس
، مقتنعان تماما بأن الاستقرار
المزعوم ، هو حالة وهمية لن تستمر
في حال انسحاب القوات الأمريكية
من مواضعها الحالية ، وهذا ما
يعرض مصداقية الإدارة الأمريكية
لامتحان فرص النجاح فيه معدومة ،
ولذلك يتمسك بترايوس بما نسب إليه
من إنجازات ويريد توظيفها
لمستقبله العسكري .
ولهذا فقد صرح غيتس أنه يؤيد
التوقف بعد خطوة إعادة العدد
الإضافي من الجنود الأمريكان إلى
بلدهم ، وهذا معناه أن هناك رأيا
لبترايوس بالتريث في التعامل من
ملف الانسحابات ، وعدم ترك سنة
الانتخابات الرئاسية تحدد مصير
معركة عسكرية ، وهذا يتناغم أيضا
مع رأي بوش في نية الولايات
المتحدة بالاحتفاظ بوجود عسكري
طويل الأمد .
لكن الصيد ثمين والتضحية من أجل
الحصول عليه باهظة التكاليف ، أما
الاحتفاظ به فهو قضية اخرى ولها
رصيدها العالي من الخسائر
والتضحيات ، فهل يحمل بوش بملف
العراق ويسلمه مختوما بالشمع
الأحمر لخليفته ؟ وحينذاك يقول
لمن يكتب التاريخ لقد جلبت لكم
العراق ، وعليكم الاحتفاظ به ، أو
أنه سيسعى لكسب المعركة
الانتخابية لصالح الحزب الجمهوري
؟
اللافت أن زيارة غيتس التي أعقبت
أحاديث عالية الوتيرة عن استقرار
الوضع الأمني ، تزامنت بانفجارات
شديدة في بغداد بالذات والتي تصلح
مؤشرا لكل العراق ، استهدفت حلفاء
واشنطن الجدد ، أي عناصر صحوة
الانبار ، وفي منطقة أمنية مغلقة
تماما ، على نحو يترك باب
الاحتمالات مفتوحا على مصراعيه ،
بأن خلافات عناصر الصحوة مع حكومة
المالكي والكتل الفاعلة فيها ،
ربما وصلت إلى بداية طريق
التصفيات ، خاصة وأن منطقة
الجادرية التي وقعت فيها
الانفجارات ، تضم مقر المجلس
الإسلامي الأعلى الذي يرأسه عبد
العزيز الحكيم ، ومقر إقامة جلال
الطالباني ، وقد تكون رسالة موجهة
لواشنطن والصحوات التي بدأت
تتململ من موقف الائتلاف الموحد
والتحالف الكردستاني ، بأن أي
اتفاق خارج صالونهما يمكن أن
يواجه المزيد من العثرات في طريق
.
فهل نجح غيتس في حل أي من هذه
المشاكل المستعصية التي تطلبت
زيارة مفاجئة ؟ أم أنه أضاف إلى
المتراكم من الإخفاقات سببا
لإخفاقات جديدة ؟ ذلك غاطس ننتظر
رحيل غيتس وكتابته لمذكراته كي
نعرف جانبا منها .
|