أصدرت الولايات المتحدة الأسبوع
الماضي عقوبات جديدة ضد سورية، في
ما يبدو انه خطوة أخرى لإضعاف
النظام وتشجيع معارضته على تصعيد
أعمالها لتغييره أو حتى إسقاطه.
وطالت العقوبات تجميد أموال أحد
أقرباء الرئيس بشار الأسد،
ومسؤولين تتهمهم واشنطن
بـ"الفساد".
وقالت وزارة الخزانة الاميركية ان
"الفساد والمحسوبية في نظام الأسد
يؤثران بشكل مدمر على رجال
الأعمال السوريين الأبرياء،
ويعززان نظاما يمارس سياسات قمعية
تتسبب بعدم الاستقرار ما وراء
الحدود (السورية)، في العراق
ولبنان والاراضي الفلسطينية".
ويستطيع المرء أن يلاحظ انه ما أن
تبدأ واشنطن بذرف دموع التماسيح
على "الأبرياء"، حتى تقدم مؤشرا
على تصعيد حقيقي، ليس في لهجة
التهديدات التي تتعرض لها سورية،
بل في المساعي الرامية لإضعاف
النظام السوري تمهيدا لإسقاطه.
وليس من العسير تفسير المواقف
العنترية التي يتخذها الزعماء
اللبنانيون المناوئون لسورية.
فهذه تكفي بحد ذاتها دليلا على
انها عنتريات يتم تغذيتها عبر
وعود قصوى تقدمها الولايات
المتحدة لهم.
وهذه الوعود تبدأ (ولا تنتهي)
بإسقاط النظام السوري، بكل ما
يمثله من سياسات وأفكار وأدوار
وتاريخ.
ولئن كانت الولايات المتحدة لا
تستطيع، وربما لا تريد أصلا، خوض
مواجهة مع إيران لأسباب عملية لا
يصعب فهمها، فان الوضع مع سورية
مختلف تماما. فهي تبدو كما لو
انها "الحلقة الضعيفة" التي يمكن،
بإسقاطها، إسقاط الكثير من
التحديات والممانعات في المنطقة.
هذه الحلقة، هي في الوقت نفسه،
حلقة مركزية، من الناحية
الجيوسياسية. وإذا أمكن للمرء أن
يدرك ماذا تعنيه، بالنسبة
للإستراتيجية الأمريكية في
المنطقة، فلن يصعب عليه أن يدرك
لماذا تندفع الضغوط، ليس لإضعاف
النظام السوري، وإنما لإخراجه من
المعادلة كليا.
الولايات المتحدة تستطيع أن تلاحظ
إن دمشق تناور؛ تقدم إصبعا هنا،
وتسحب إصبعا هناك.
والمناورة هي دليل قوة أحيانا،
ولكنها دليل ضعف أحيانا أخرى.
ولكن إنظر الى الفوائد
الإستراتيجية التي يمثلها سقوط
النظام في سورية، وستعرف لماذا
شبعت واشنطن من التعامل مع
المناورات.
والهدف واضح. فبالنسبة لاسرائيل،
فان إسقاط النظام في سورية سوف
يعني "تجفيف منابع" المقاومة ليس
في لبنان وحده، وإنما في الأراضي
الفسطينية المحتلة أيضا. ومع وجود
فريق عملاء أقوياء ومستعدين
(بالتصريحات المعلنة) لخوض حرب
أهلية جديدة لتقليم أظافر "حزب
الله" وكنس حركة "حماس"، فان ذلك
سيكون بمثابة المعادل الوحيد
للهزيمة التي تعرضت لها إسرائيل
في حرب صيف 2006.
إيران، من دون سورية، لن تعود
تمارس أية عنتريات كلامية ضد
إسرائيل. وستحوّل تعاونها الوثيق
(والمكشوف) مع "الشيطان الأكبر"
في العراق الى علاقة تحالف تلبي
طموحات مشروعها الطائفي من ناحية
(وهو ما يتلائم جيدا مع
الإستراتيجية الأمريكية) وتلبي،
من ناحية أخرى، طموحات المشروع
الأمريكي نفسه، وذلك مقابل ثمن
واحد: بقاء نظام الملالي في
مكانه.
ولكن، إذا كان لبنان يمثل "عقدة"
لإسرائيل والولايات المتحدة، فان
العراق "مأزق". وبالنسبة لواشنطن،
فان معالجة المأزق أهم من إيجاد
حل للعقدة.
الكل يعرف ان الولايات المتحدة
غزت العراق وهي تحمل مشروعاً ليس
لتغيير نظام واحد بالقوة، وانما
لتغيير أنظمة أخرى. وسورية كانت
في مقدمة الأهداف. ولولا إندلاع
المقاومة العراقية، لكانت
الدبابات الأمريكية في الطريق الى
دمشق... (لـ"الدفاع عن الأبرياء"
طبعا).
فماذا فعلت سورية للرد على جميل
المقاومة؟
إعترفت بنظام العملاء في بغداد.
وقدمت كل الأدلة والبراهين على
أنها لا تدعم المقاومة الوطنية
العراقية. وانها تحارب "الإرهاب"
مثلها مثل الولايات المتحدة،
وقالت انها، بالأحرى، ضحية له.
وفي المقابل، فانها واصلت دعم
المقاومة في لبنان، وساعدت في
إعادة تسليح حزب الله، وواصلت
التمسك بموقفها التحرري نفسه تجاه
فلسطين والجولان.
ومن الواضح أن هذا كله لم ينزل
برداً وسلاماً على قلب واشنطن.
وبمقدار ما كان يعنيه ذلك من
"مناورات"، فقد فُهمت هذه
المناورات على أنها دليل ضعف.
ما حصل هو ان سورية تتشدد في
"العقدة"، وتتساهل مع "المأزق".
وهذا ما يعطي الولايات المتحدة
شعورا بان سورية تتمسك بالصغير
وتفرط بالكبير.
حكمة الحياة تقول انك لو كنت تريد
ان تربح الصغير، فعليك ان تتمسك
بالكبير.
دمشق تفعل العكس. وبالتالي، فقد
صار من الصحيح، وفقا لدبلوماسية
الكاوبوي، أن تخسر الإثنين معا.
مشكلة دمشق الأخرى، هي انها إذ
ليس لديها الكثير من الحلفاء،
فانها مضطرة للثقة بالحليف
الإيراني.
وهذا حليف "بيّاع". انه الثور
الأسود الذي يضحّي، من أجل نجاته،
بالثور الأبيض.
ومن حق كل المناهضين للسياسات
والمشاريع العدوانية الأمريكية
والإسرائيلية أن يضعوا أيديهم على
قلوبهم خوفا على دمشق. ولكنهم
مضطرون الى أن يضعوا أيديهم على
قلوبهم خوفا من دمشق أيضا.
فلو كانت سورية تريد ان تدافع عن
نفسها، لدافعت عن المقاومتين
العراقية واللبنانية في آن واحد.
ولو كانت تثق بحلفها مع الدجّالين
في طهران لكانت طلبت منهم، على
الأقل، أن يكفوا عن دعم وتمويل
فرق الموت الطائفية التي تعمل
جنبا الى جنب فرق الموت التابعة
للإحتلال.
إذا كان مشروع الهيمنة الأمريكية
واحدا في المنطقة، فلماذا تتواطأ
طهران ودمشق مع نصفه في العراق،
وتناهض نصفه الآخر في لبنان؟
هل المسألة مسألة نفاق؟ وهل يمكن،
بالنفاق، أن نصل الى أي مكان؟
هناك، في واشنطن، من يعتقد ان
الطريق الى بيروت يمر عبر دمشق.
وهناك من يعتقد ان الطريق الى
طهران يمر عبر دمشق أيضا، وبما ان
المقاومة الوطنية العراقية هي
التي تقطع طرق السيطرة على بغداد،
فهناك من يعتقد ان الطريق الى
بغداد يمر عبر دمشق أيضا وأيضا.
فوداعا. المناورة لم تنفع.
والتحالف مع الدجّالين لم ينفع.
واللعب على الحبال لم ينفع.
والتضحية بالكبير من اجل كسب
الصغير لم تنفع. وذبح المقاومة في
العراق وتسليحها في لبنان لم
ينفع.
دمشق يجب ألا تنسى المعادلة
الأمريكية: "إما أن تكون معي أو
ضدي". وهذا يعني: إما أن تموت
بملابسك، أو أن تعيش و... تخلع.
أي خيار آخر لن ينفع.
alialsarraf@hotmail.com
|