حينما تم الإعلان عن قيام (دولة )
إسرائيل ، منتصف عام 1948 ، كان
واضحا أنها تمتلك هوية مركبة من
عدة عناصر في وقت واحد ، لا يتوفر
لأية دولة اخرى في العالم ، ويمكن
إجمال هذه العناصر بما يلي :-
1- أنها دولة يهودية الديانة
وتستند على جملة من المعتقدات
الدينية لقيامها .
2- أنها دولة عنصرية ترتكز على
نقاء العنصر الإسرائيلي كأساس
لصحة الانتماء للديانة اليهودية .
3- أنها دولة أقيمت بتعهد من دولة
كبرى وهي المملكة المتحدة ، عبر
وعد بلفور لليهود ، بإقامة وطن
قومي لهم في فلسطين التي كانت وقت
صدور الوعد تحت الانتداب
البريطاني ، فهي والحال كذلك تعيش
عقدة غربة أبدية في المنطقة التي
زرعت فيها ، وتعيش هاجس التهديد
من محيطها الجغرافي ، خاصة أنها
اعتمدت سياسة الإجلاء لشعب الأرض
التي أقيمت فوقها ، وهذا كله كان
يستتبع نظرية القوة ، طريقا وحيدا
للبقاء .
4- إن صغر المساحة الجغرافية (
لدولة إسرائيل ) ، بحيث يكون من
المستحيل استيعاب يهود العالم
جميعا ، تدعوها إلى اعتماد سياسة
التوسع على حساب المنطقة
الإقليمية ، هذا يجب أن يجعلها
وبصفة دائمة ، أقوى قوة عسكرية ،
ليس مقارنة مع أية دولة في
المنطقة ، كبيرة كانت أو صغيرة ،
وإنما يجب أن تمتلك تفوقا
إستراتيجيا ، على كل دول المنطقة
مجتمعة ، وقد لا يتاح ذلك على
المدى البعيد بسبب اعتماد خطط
تنموية ، على الصعد الاقتصادية
والعلمية والبشرية ، مما سيقلص من
سعة الفجوة التكنولوجية ، بينها
وبين الدول العربية المحيطة بها ،
فيقيم توازنا في الردع المتبادل .
5- أنها دولة غير قادرة على
الاعتماد على نفسها من حيث
الموارد الاقتصادية الكافية ،
لتأمين الميزانية الحربية ، مع
متطلبات دولة تسعى لطرح نفسها
نموذج التفوق في كل الميادين ،
للمقيمين فيها ، وأمام أصدقائها
وأعدائها على حد سواء .
هذه الخصائص التي تميز ( دولة
إسرائيل ) ، دفعت بها بقوة للبحث
عن عوامل قوة ، غير ذاتية ، أي
بضعف أعدائها ، من دول المنطقة ،
ولذا فقد بدأت أولى الإشارات على
خطة إسرائيلية ، بعد أقل من أربع
سنوات على قيام إسرائيل ، فيما
عرف لاحقا بمشروع بن غوريون ، أول
رئيس وزراء لإسرائيل والذي رسم
مسار المقص المتعرج لتقطيع أوصال
المنطقة ، ووردت فيه تفاصيل مشروع
التقسيم الجديد الذي يراد إخضاع
المنطقة له ، ويقضي المشروع الذي
رسم على مراحل طويلة ، بتقسيم
العراق إلى ثلاث دول ، كردية في
الشمال ، وسنية في الوسط ، وشيعية
في الجنوب ، وكذلك كان الحال
ينطبق على سوريا والمملكة العربية
السعودية ، وحتى لبنان كان موضوعا
على مشرحة التقسيم رغم صغر مساحته
، واعتقد مهندسو هذه الخطة أن
إسرائيل ستحافظ على مركزها ،
كأقوى قوة إقليمية ، حتى في حال
تخفيض الإنفاق.
2
العسكري ، ثم أن إسرائيل تعيش
عقدة القوة العراقية ، مستندة على
موروث من أساطير دينية ، تقول
بنهايتها على أيدي العراقيين ،
ولهذا كان التركيز على العراق ،
يحتل أكبر حيز من هواجس الفناء
الإسرائيلي .
ليس هذا من قبيل الترويج لنظرية
المؤامرة ، فالخطة موضوعة وليست
مجهولة أو غائبة عن أعين مراكز
الدراسات الإستراتيجية ، ولعل
القرار ( غير الملزم ) الذي اتخذه
مجلس الشيوخ الأمريكي في السادس
والعشرين من أيلول / سبتمبر
الماضي بتقسيم العراق إلى ثلاث
دول ، ما يعزز القناعة بأن
التناغم الإسرائيلي الأمريكي ،
بشأن هذه القضية قد انتقل من
مرحلة التخطيط ، إلى مرحلة
التنفيذ ، والذي بدأت خطواته
الأولى في دعم سلطة شبه مستقلة في
شمال العراق ، منذ عام 1991 ،
وأخذت طابعا مقننا بعد الاحتلال
الذي تعرض له عام 2003 ، كانت
أولى مؤشراته إقرار أخطر دستور في
تاريخ العراق ، وهو الدستور الذي
أوجد الأرضية الخصبة للتقسيم ،
عبر واجهة الأقاليم الفدرالية .
فلماذا تم اختيار العراق ليكون
الصفحة الأولى في خطة التقسيم
المعدة لدول المنطقة ؟
بالاستناد إلى أحداث التاريخ ،
وحقائق الجغرافية ، حافظ العراق
على موضع خاص ، في تحديد نمط
التفكير الإٌستراتيجي ، للزعامات
الإسرائيلية ، ويتساوى في ذلك
اليمين بكل فصائله ، المتطرفة
والمعتدلة ، واليسار بكل أطيافه ،
وكان مؤشرا بخط أحمر على أية خطوة
عراقية باتجاه تحديث البلد ووضع
برامج تنموية ، وكانت مجسات
الموساد تتوزع على مقتربات
الشركات الدولية التي تنهض بإقامة
مشاريع للتنمية وخاصة في مجال
البحوث العلمية ، فالعراق على ما
يعتقد الإسرائيليون ، دور وقدرات
وامكانات اقتصادية وبشرية ،
والعراق يؤثر في محيطه أكثر من
قدرة هذا المحيط على التأثير فيه
، ولما كانت المعتقدات
الإسرائيلية تؤشر العراق ، على
أنه الخطر المرجح على وجودها ،
فقد تعرض العراق إلى أوسع جهد
منسق بين إسرائيل وسائر القوى
الدولية الداعمة لها ، لإضعاف
العراق وخاصة باللعب بالورقة
الكردية ، في مختلف المراحل التي
مرت على العراق ، بما فيها العهد
الملكي الذي كان معروفا بتحالفه
مع الغرب ، مما يعزز القناعة بأن
استهداف العراق لا يرتبط بنظام
حكم معين ، بل يرتبط بالموقف من
العراق أصلا ، وبصرف النظر عمن
يحكمه ، ولعل المواقف التي أعلنت
أثناء مؤتمر وزراء خارجية دول
جوار العراق ، الذي عقد جلساته في
اسطنبول في 3/11/2007 ، تثير
الكثير من التساؤلات الملحة ، عن
ثنائية الموقف الأمريكي خصوصا ،
والدولي عموما ، بشأن الإجماع على
اعتبار حزب العمال الكردستاني ،
حركة إرهابية ، مع أن هذا الحزب
لم يرتكب من الجرائم ، إلا القليل
مقارنة بعهد طويل مما ارتكبه
الحزبان الكرديان ، الممسكان
حاليا بمقاليد السلطة التي جاءت
بها أمريكا نفسها ، إذ تعتبرهما
الولايات المتحدة حركة تحرر وطني
وتقدم لهما كل أشكال الدعم
.
3
الأمر يرتبط بالجهد المنسق لإضعاف
العراق تدريجيا ، تمهيدا لتقسيمه
، وهذا ما يفسر الدعم الأمريكي
المباشر ، أو بواسطة إيران الشاه
للحركة الانفصالية في شمال العراق
، وكذلك دخول إسرائيل على خط
الدعم المتواصل للحزب الديمقراطي
الكردستاني ، والتي وصلت مرحلة
الزيارات المتبادلة بين الجانبين
لعل من أهمها الزيارة التي قام
بها الملا مصطفى البرزاني ، إلى
إسرائيل وقراءته لسورة الفاتحة ،
في مقبرة لقتلى الجيش الإسرائيلي
، في حروب إسرائيل ضد العرب ،
وكذلك وجود بعثات عسكرية
إسرائيلية في شمال العراق ، تتولى
تدريب البيشمركة على فنون القتال
والعمل الاستخباري ، ومن اللافت
للنظر ، أن إيران الخميني اقتفت
خطوات إيران الشاه بتقديم الدعم
للحركة الكردية نفسها وبرموزها
المنقسمة على نفسها ، وأخذ الدور
الإيراني يأخذ بعدا أكثر خطورة في
دفع مسيرة التقسيم إلى الأمام ،
وذلك بتشجيع الأحزاب الشيعية على
تبني مشروع فدرالية الوسط والجنوب
، وهكذا يحصل التقاء فريد بين
إيران الإسلامية والشيطان الأكبر
، مما يؤكد أن رأس العراق مطلوب
من قبل أطراف تختلف فيما بينها
على كل شيء ، ولا يوحد بينها إلا
الحرص على تفتيت وحدة العراق .
هكذا يتضح أن العراق مستهدف
بخطوات عملية على طريق التقسيم
منذ أمد بعيد ، أخذ قوة الدفع بعد
الاحتلال الأمريكي ، وبشكل خاص ،
بفرض الدستور بقوة الفتوى الدينية
، أو الضغوط التي مارستها
المليشيات ، أو التزوير الذي
شهدته صناديق الاقتراع ، واستندت
الأحزاب السياسية التي جاءت من
خارج الحدود ، على آلية رسمت
أسسها سلطة الحاكم الأمريكي بول
بريمر ، وأخذت ترفع من سقف
مطالبها في تطبيق الأقاليم
الفدرالية ، متناغمة في ذلك مع
تصاعد وتيرة المطالبة الكردية ،
بسرعة إيجاد الإطار القانوني
المنظم لعمل مؤسسات تم تشكيلها في
المنطقة ، قبل وضع أطرها
القانونية ، مستغلة الظرف الشاذ
الناشئ عن عدوان عام 1991 .
فماذا يحصل لو تحققت الخطوات
الأولى على طريق التقسيم ؟
أي ماذا سيقع من تطورات فيما لو
قامت الأقاليم الفدرالية ؟
قد لا نكون مغالين إذا ما قلنا ،
إن العراق سيتحول إلى ساحة لحروب
بين أقاليمه ، من أجل الحصول على
مكاسب ( إقليمية ) ، يمكن أن
نتوقع بعضها الآن ولكن الكثير
غيرها ستفرزه ظروف لاحقة ، تنشأ
عن نمو نزعة محلية عند كل إقليم ،
يريد تعزيز موقعه أمام الأقاليم
الاخرى ، هذا غير ما ستدفع به
مصالح دول مجاورة للعراق ترى أن
مصالحها يمكن أن تتعرض للتهديد
فيما لو تحققت مكاسب لأقاليم على
حساب اخرى ، أثناء توزيع تركة
العراق على ورثة الكثير منهم لا
يستحقون منها شيئا بأي حال من
الأحوال .
4
ويمكن أجمال صورة الصراعات
المحتملة بين الأقاليم بما يلي :-
1- صراعات حدود برية :- ومن
المرجح أن تشمل حدود كل الأقاليم
المقترحة ، أو تلك التي من
المحتمل أن تقع مطالبات بإقامتها
، انطلاقا من استشراء حالة العدوى
المرضية،فالحدود
المتحركة التي رسمتها الحركة
الكردية لإقليمها ، تعد وصفة
نموذجية لحروب ستنطلق بمجرد إعطاء
شارة البدء لرسم حدود الدول التي
ستقوم على أنقاض الدولة العراقية
، فالكيان الكردي يرسم مسارا
متعرجا لحدوده ، قد تتعدى محافظة
ميسان لتصل إلى حد ملاحقة ظل أي
مواطن كردي يمكن أن يكون قد
اضطرته ظروف الوظيفة للسكن في
الفاو على سبيل المثال ، أما ما
يحصل في محافظة نينوى والتأميم ،
فهناك مطالبات كردية بضم أجزاء
شاسعة من أراضيهما لإقليم (
كردستان ) حتى مع وجود الدولة
العراقية .
أما بالنسبة لإقليم الجنوب ، أو
الدولة الشيعية المقترحة ، فإن
المسؤولين في محافظة كربلاء لم
يمنحوا أنفسهم فسحة من الوقت
لدراسة ملف الحدود مع محافظة
الأنبار ، وتشير المطالبات التي
تم تقديمها خلال زيارة قام بها
وفد من محافظة كربلاء ، أن الدولة
الجنوبية تريد قطع صلة الأنبار مع
المملكة العربية السعودية ، وهذا
بحد ذاته يخفي نوايا غير التعديل
الإداري لحدود المحافظة ، ويتعداه
إلى الاستعداد لمواجهة أية تطورات
ميدانية لاحقة .
هذا ليس وحده من خلافات الحدود
التي قد تعيد إلى الأذهان حروب
الحدود البرية بين جمهوريات
الإتحاد السوفيتي بع انهياره ،
ومما يفاقم من أخطار الخطة
المرسومة والتي تجد لها رواجا من
قبل إيران بشكل خاص ، ما يراد
لمدينة سامراء ، فالمقترح أن تكون
إقليما مختلطا ، أي بعبارة أكثر
وضوحا إقليما سنيا شيعيا ، بدعوى
وجود أضرحة مقدسة عند الشيعة ،
هذا معناه أن المنطقة يخطط لها أن
تكون ساحة حرب تطهير للسكان
الأصليين للمنطقة أو طردهم منها ،
وجلب آخرين إليها ، و إلا كيف
تكون مختلطة ، وهي منطقة من لون
واحد ، ولم تشهد طيلة تاريخها
القديم أو الحديث أي شكل من أشكال
الصراع المذهبي ، بخلاف ما شهدته
مدن شيعية خالصة مثل كربلاء
والنجف ، أو مدن غالبية سكانها من
الشيعة ، مثل مدن الفرات الأوسط
وجنوب العراق ، ولم يكن الصراع
فيها بين سنة وشيعة ، وإنما بين
أحزاب شيعية ، على النفوذ السياسي
والامتيازات المالية الناتجة عن
استخراج النفط وتهريبه ، أو
النفوذ الديني والسيطرة على
المزارات ، فإذا كان النزاع على
الأرض والثروة على هذا النحو ،
حتى في إطار العراق الفدرالي ،
فكيف يمكن أن نتصور شكل هذا
الصراع بين دول مختلفة على كل شيء
، وما هو المدى الذي ستصل إليه
التدخلات الخارجية في دعم هذا
الطرف أو ذاك .
2- صراعات على الثروة :- لعل
الثروة والنفطية منها بالدرجة
الأولى ، أكثر دوافع الحركة
الكردية للإصرار على ضم كركوك إلى
الإقليم الكردي ، لأن دولة لا
تمتلك ثروة أو إطلالة بحرية ،
تفقد قدرتها على مواجهة التحديات
التي يمكن أن تعترض مسيرتها ،
ولهذا فإن الزعامة الكردية تسعى
لامتلاك أحد عاملي قوة أية دولة
في العصر الحديث ، و لأن النفط
مصدر قوة سياسية للدول المالكة له
فضلا عما يمنحها من قدرات
اقتصادية ، فقد أحدثت الحركة
الكردية ومن خلال هجرة واسعة
النطاق إلى مدينة كركوك ، تغييرات
على تركيبتها السكانية ، كل ذلك
بهدف كسب الاستفتاء المقرر عقده
لتقرير مصير هذه المدينة ،
بالمقابل فإن المناطق الغنية
بالنفط في المنطقة الجنوبية ،
ستواجه حروبا للسيطرة على هذه
الثروة ، وهنا يلتقي
صراع الثروة مع صراع الحدود ،
خاصة وأن الدول تسعى لتوسيع
رقعتها الجغرافية مع ما يحمله ذلك
من زيادة مؤكدة في مكانتها
الإقليمية والدولية ، إذ أن اتساع
المساحة الجغرافية لأية دولة
يمنحها مكانة أكبر ، فالدول
الصغيرة عادة لا تشغل نفس المكانة
التي تحتلها الدول الكبيرة ، ولأن
دولة جنوب العراق الشيعية ، ستكون
حديثة التكوين وصغيرة المساحة
بالقياس إلى الدول المجاورة ، ذات
الخزين الموروث من الأطماع
الإقليمية ، فإن إيران بشكل خاص ،
والكويت بحدود ما ، ستدخل بقوة
على خط التنافس لأخذ جزء من تركة
بلد يراد تقطيع أوصاله .
3- صراعات على المياه :- لعل
المنطقة التي نعيش فيها ، من بين
أكثر مناطق العالم نقصا في
الموارد المائية ، وهذا بالمقابل
يجعلها أكثر المناطق المرشحة
لعوامل التوتر والاضطراب ، ولما
كان الحديث المطروح في أوساط
الكتل السياسية المتبنية لفكرة
إقليم الوسط والجنوب ، يركز على
أن المناطق الوسطى من العراق ،
خالية من أية ثروة تمكنها من
تلبية مستلزمات الدولة الحديثة ،
وهذا بحسب تلك الفرضية هو الذي
أدى إلى بروز حركة المقاومة
المسلحة في المناطق السنية ، لأن
السنة خسروا سلطة يريدون
استعادتها ، ولأنهم يبحثون عن
وحدة تؤمن لهم موارد مالية ، توشك
أن تمنع عنهم ، وهذا معناه أن هذه
الأطروحة ، لا بد أن تخلق حافزا
وإصرارا ، على تنمية مصادر للدخل
، ولما كانت المنطقة تفتقر إلى
المصادر الطبيعية ، على وفق
الفكرة السابقة ، فإن الزراعة لا
بد أن تكون الخيار الإستراتيجي
لأية تنمية سليمة ، فما يسمى
بالصحراء الغربية يمكن أن تتحول
إلى أرض زراعية وفيرة الإنتاج من
مختلف المحاصيل فيما لو توفرت لها
الحصة المائية ، ولما كانت
النزاعات متعددة الدوافع والأسباب
، ستنطلق على نطاق واسع ، بين
الأقاليم وداخل كل إقليم فمن حق
المراقب أن يتوقع لجوء الأطراف
الممسكة بمفاتيح المياه ، إلى
التحكم بها على نحو يؤمن حاجتها
الآنية والمستقبلية للمياه ،
طالما كانت الدول الاخرى تمتلك
مصادر دخل كبيرة ، وحينها ستجد
الدولة الجنوبية بشكل خاص أنها قد
جرت على نفسها مشاكل مركبة ، لا
تستطيع الإفلات منها إلا بخوض حرب
مع الطرف المتحكم بالمياه ،
فالسدود الحاكمة ، والقادرة على
تخزين الكميات الإستراتيجية من
المياه ، تقع خارج حدود الإقليمين
الكردي والشيعي ، مما سيمنح إقليم
أو دولة الوسط قدرة غير محدودة
على التحكم ، ليس بكميات المياه
المطلقة ، من سدود الموصل وسامراء
وحمرين على دجلة وديالى،
والقادسية والرمادي ، على الفرات
، وقد يمر وقت طويل جدا قبل
التوصل إلى اتفاقات ملزمة بشأن
توزيع الحصص المائية ، وفقا
للقانون الدولي ، إن وصلت وحدة
العراق إلى مفترق طرق ، فالدستور
الحالي لم يحسم قضية المياه حتى
في إطار مفهوم الدولة الفدرالية ،
فكيف له أن يعالج مشاكل ستصبح في
مرحلة من التقسيم المقترح ، من
الشؤون الدولية ؟ وقد يكون الحديث
عن إقليم سامراء ، نتيجة لعوامل
مركبة ، منها ما يرتبط بنزعة
السيطرة والتوسع ، والبعد الطائفي
لقضية المزارات الشيعية ، والتحكم
بعقد المواصلات الإستراتيجية ،
وكذلك السيطرة على أهم سدود دجلة
وأكثرها قدرة على التحكم بكميات
المياه المحولة من النهر إلى خزان
الثرثار ، الذي يعد مستودعا لأكبر
كمية من المياه يستوعبها أي خزان
آمن بين سدود العراق قاطبة ،
وخاصة بعد أن تم فتح قناة بينه
وبين نهر الفرات ، ومن ثم فتح
ذراع الثرثار دجلة ، وأخيرا فتح
قناة من بحيرة السد لتوازن درجة
الملوحة في المياه القادمة من
خزان الثرثار ، عبر ذراع دجلة ،
مع مياه القناة المسماة بقناة
الكتم .
5
ومع أن أطروحة فقر المناطق الوسطى
من العراق ، لا تصمد أمام حقائق
التحري والاستكشاف التي أجريت
فيها في عقود السبعينات
والثمانينات والتسعينات من القرن
الماضي ، فإن الحديث بهذا المنطق
سيغدو قاصرا عن فهم حقائق التاريخ
القديم والحديث للعراق الذي صمد
أمام كل التحديات التي واجهته ،
واستهدفت تمزيق وحدته الوطنية ،
ومع ذلك فإن الصحراء الغربية تضم
في باطنها أكبر حقل للغاز الطبيعي
في منطقة الشرق الأوسط ، وكذلك
الفوسفات واليورانيوم والألمنيوم
والحديد والسليكات ، التي تعد من
أنقى الأنواع في العالم ، وكذلك
مادة الكوئولين ، وهي المادة
الأولية لصناعة الخزف .
هذه هي الصورة المختصرة لما تخطط
له إسرائيل و الولايات المتحدة ،
و تتحرك قوى محلية لتنفيذه بدوافع
مختلفة ، كل طرف له حساباته
الخاصة فيها ، فإذا كانت النوايا
على هذا المستوى من الخطورة
والوضوح ، فهل هناك ما يقابلها من
التدبير المضاد ؟ ومتى تبدأ
صفحاته الأولى ؟ وما أمكانية كل
طرف في تحقيق أهدافه ؟
من أجل إعطاء إجابة قريبة من
الواقع المعاش على الأرض ، لا بد
من سؤال محدد ، وهو هل أن المقصود
تقسيم العراق فقط ؟ أم أن الهدف
يتعدى ذلك إلى شمول دول الإقليم
بكامله بهذا المخطط ؟
بقدر ما يسهل نجاح مشروع تقسيم
العراق ، الصفحات اللاحقة من هذه
الخطة ، فإن بقاء دول الجوار
الإقليمي على قوتها وتماسكها ،
سيعرقل من خطوات تقسيم أي بلد آخر
.
6
لكن الولايات المتحدة التي جاءت
لغزو العراق ، محملة بأوهام القوة
، عاقدة العزم على تنفيذ سلسلة من
التدابير التي رأت أنها ستفضي في
نهاية المطاف،إلى تقسيم العراق ،
على نفس السيناريو المرتبط بمشروع
بن غوريون ، غير أن الولايات
المتحدة واجهت منذ الأيام الأولى
مقاومة ضارية من الشعب العراقي ،
حاولت التقليل من شأنها ، وظنت
أنها قادرة على سحقها خلال أيام
معدودة ، وأطلقت عليها الكثير من
الأوصاف الساذجة ، التي لم تتمكن
من ملامسة حقائق ما يحصل فعلا ،
وظنت واشنطن أن قوة الماكنة
الحربية الهائلة التي تمتلكها ،
والتي مكنتها من استكمال احتلال
العراق ، هي نفسها التي ستؤمن لها
بقاء طويلا ومستقرا في العراق ،
بعد أن يتم تحويله إلى رأس جسر
للقفز إلى الأهداف الاخرى ، ولكن
حشد القوة لم يأت بنتائج ملموسة ،
وكما أخفق في المرحلة الأولى
للغزو في تثبيت الاستقرار ، فإنه
أخفق بدرجة أكبر في تصفية حركة
المقاومة ، لأن المقاومة كانت قد
رسخت جذورها في المناطق الحاضنة
لها ، فهي تعبير طبيعي لإرادة
العراقيين في ممارسة حق مشروع ،
بمقاومة الاحتلال ، فضلا عما
تركته قوات الاحتلال من ردود فعل
غاضبة لدى المواطن العراقي ، الذي
انتهكت سيادة بلده ، ومورست ضده
أشكال كثيرة من الظلم والاضطهاد
ودوس الكرامة ونهب الممتلكات ،
والاعتداء على القيم والتقاليد
والمقدسات ، وهذا بدوره أقام
جدارا إضافيا بين المحتل ، وآخر
شريحة كانت على استعداد للتعاون
والتعامل معه ، وحينما توصلت
الولايات المتحدة أن أساليبها في
التعامل مع ملف المقاومة ، كان
الوقت قد أفلت من يدها تقريبا ،
وكانت المقاومة أشرف ظاهرة أفرزها
العراق بعد الاحتلال ، وبالمقابل
فإن الجهات التي مدت يدها
للمحتلين ، قد عزلت نفسها عن
الوسط الجماهيري ، وفقدت القدرة
على أي تأثير فيه ، ويمكن القول
دون تردد إن المقاومة أفشلت
المشروع الأمريكي الكوني ، وأفشلت
خطة تقسيم العراق ، غير أننا يجب
أن نعترف أن تعدد الصفحات
والبدائل الجاهزة ، أو المعدة ،
وفقا لما تفرزه الحقائق الميدانية
، لا يترك مجالا للشك بأن
الولايات المتحدة التي عبرت
البحار والمحيطات ، وجلبت مئات
الآلاف من قواتها ، قد لا ترفع
الراية وتسلم بالهزيمة ، فهي
ستجرب المزيد من الخيارات البديلة
، كي لا تخرج من المنازلة دون
نتيجة ، وحينها سيكون على
المقاومة الوطنية تطوير أساليبها
بما يضمن إفشال التعديلات
الأمريكية .
7
إذا كان هدف الولايات المتحدة
تقسيم العراق لوحده ، فهناك عوائق
خارجية ستجعل من هذا المشروع
محكوما عليه بالفشل ، ستتعاضد مع
الجهد العراقي الوطني الرافض
للمشروع ، أما إذا كان تقسيم
العراق جزء من خطة أشمل ، يراد
تصديرها إلى دول المنطقة ، فإن
البدء بالعراق كان خطأ إستراتيجيا
، لم يستند على قراءة صحيحة ، لا
للتاريخ ولا للجغرافية .
وعلى العموم يكمن إجمال أهم
العوامل التي ستقف في طريق تنفيذ
الخطة الأمريكية لتقسيم المنطقة
:-
1- رفض الشعب العراقي في جميع
المناطق ليس للتقسيم فقط ، وإنما
لمشروع الفدرالية الذي ينظر إليه
على أنه الخطوة الأولى على طريق
التقسيم ، لأن التقسيم
خلاف لمصالح العراقيين ، اقتصاديا
واجتماعيا ، وخلاف لمنطق التاريخ
والجغرافية ، وكان لدخول رقم
المقاومة الوطنية المسلحة على
معادلة التحرك الشعبي ، دورا
حاسما في تغيير مسار الأحداث
سياسيا وأمنيا ، وقد أجمعت فصائل
المقاومة على رفض الفدرالية
ومشروع السناتور جوزيف بايدن .
2- لقد جاء احتلال العراق ، خدمة
كبرى للنفوذ الإيراني في المنطقة
، ومن أخطر إفرازات الاحتلال ، أن
إيران استطاعت أن تمد نفوذا مؤكدا
في جنوب العراق ، وأخذ تدخلها
مستوى مثيرا لقلق معظم شيعة
العراق ، الذين وجدوا أنفسهم وقد
أصبحوا ضحية لأكبر عملية سطو
لتاريخ التشيع ، و محاولة تحويله
إلى وسيلة لخدمة أهداف التوسع
الإقليمي الإيراني في منطقة
الخليج العربي ، فالفدرالية
المقترحة ، توشك أن تلحق إقليم
الوسط والجنوب بالنفوذ الإيراني ،
عبر الخطط التي ترسمها القوى
السياسية المؤمنة بمبدأ ولاية
الفقيه ، لسلب هذا الإقليم أية
قدرة للتحكم بمصيره ، أو حتى مجرد
مناقشة ما يرسم له من توجهات ،
ولما كان هذا الاحتمال ، سيكون
أكثر صرامة في حال تقسيم العراق
مع بقاء نظام الحكم الإيراني
الحالي ، أي إلحاق إقليم الوسط
والجنوب بالدولة الإيرانية ،
فمعنى ذلك أن نفط العراق الذي
يزيد إحتياطيه المقدر على 200
مليار برميل ، سيضاف إلى رصيد
إيران ، سواء برسم السياسة
النفطية إنتاجا وتسويقا وتسعيرا ،
أو باستخدام موارده في نشر الفوضى
في عموم المنطقة ، بما يدخل
العالم في أتون مواجهة خطيرة ،
ولذلك فطالما أن الخطوة الثانية
من المشروع الكوني الأمريكي ،
والمتمثلة باحتلال إيران كما كان
مرسوما من قبل ، نتيجة التعثر
الإستراتيجي لهذا المشروع ، بسبب
انطلاقة المقاومة المسلحة في عموم
مناطق العراق ، فالولايات المتحدة
لن تسمح لإيران بالتمدد على النفط
العراقي ، وبالتالي فإن مصلحتها
الآن تتقاطع مع مشروع التقسيم ،
بانتظار فرصة مواتية أكثر ضمانا
لمصالحها .
3- إن استمرار الدولة التركية
بتركيبتها الحالية وقوة الجيش
التركي ، ورفض تركيا القوي لقيام
دولة كردية على تخوم حدودها ،
يجعل من قيام كيان كردي مستقل
أمرا محفوفا بمخاطر المواجهة مع
الدولة التركية المستهدفة
بالمرحلة الثانية من مشروع
التقسيم ، الذي يبدأ أولى صفحاته
فيها بفصل المنطقة الكردية عنها ،
وبوقوف تركيا ضد قيام دولة كردية
مستقلة في شمال العراق ، مع
استمرار التحالف التركي الأمريكي
، فإنها إنما تدافع عن وحدة
أراضيها بالدرجة الأولى ، ولو
أنها تعلم أن وحدة أراضيها ليست
مستهدفة في مرحلة لاحقة ، ربما
كانت تجد مصلحة لها في إضعاف بلد
مجاور ، كانت العلاقة معه غير
مستقرة بصفة مستمرة .
8
لقد شهدت المنطقة الحدودية لتركيا
مع شمال العراق توترا حادا ، كاد
أن يجر المنطقة كلها إلى حرب من
الصعب التحكم بمسرح عملياتها ،
نتيجة للدعم المقدم من الحزبين
الكرديين العراقيين ، اللذين
يحتكران السلطة في شمال العراق ،
لحزب العمال الكردي التركي ، على
نحو شعرت معه تركيا ، أنها
مستهدفة بخطة ليست من تصميم محلي
، يراد منها ممارسة أقصى درجات
الضغط على الحكومة التركية ،
لتقديم تنازلات جدية ، ليس لحزب
العمال الكردي ، وإنما للحركة
الكردية العراقية الساعية لفرض
نموذجها كأمر واقع ، تارة
بالإغراءات الاقتصادية ، وتارة
بالقوة غير المباشرة ، أي قوة حزب
العمال الكردي ، بدعم تسليحي
وتقديم المأوى الأمن ، ومعسكرات
التدريب ، وهذا التطور أنزل سقف
طموح الانفصال ، وأعاد للحركة
الكردية العراقية إحساسها بأهمية
عراقيتها في بورصة العلاقات
الإقليمية .
9
وعلى هذا يمكن افتراض أن تقسيم
العراق ، لن يكون ميسورا لأي طرف
محلي أو إقليمي أو دولي ، ما لم
يتم وضع دول المنطقة على سكة
البلقنة ، وهذا كله لا يوفر ضمانة
بأن العراق سيسلك طريق الآخرين .
Nizar_samarai@yahoo.com
|