من المعروف إن التعليم العالي ،
هو الحلقة الأقوى في وجه أي تغيير
سلبي للأوضاع السياسية
والاقتصادية والأخلاقية للبلدان ،
لأسباب تتعلق أولا بالتقاليد
الجامعية ، التي تُبنى من خلال
التجربة وتبادل الخبرات للأساتذة
، الذين عادة يجلبون ما يعزز
التقاليد الجامعية من الجامعات ،
التي تخرجوا منها ، وثانيا كون
العلوم بكافة تخصصاتها تعتمد على
المنطق بعيدا عن الأساليب
الملتوية للسياسيين والمتطفلين
والطارئين .
ولكن عندما تكون الجامعات هدفاً
استراتيجياً لقوى خارجية متخلفة و
طارئة ومتطفلة وانتهازية وغير
وطنية ، في مقدمتها الاحتلال
السيئ وعملاؤه الأذناب ، فهذا أمر
خطير ، سينتج عنه انهياراً
ملحوظاً للعملية التربوية
والتعليمية ، بحيث تصبح عملية
التعليم الوطني العام ، وإعادة
التنمية الوطنية للجامعات ، أمراً
بالغ الصعوبة ، بفعل تغلغل
المتملقين والمرتزقة والفاسدين
والحرامية .
إنَّ الذي حدث في ميدان التعليم
العالي ، منذ بدء صفحة الاحتلال
المستمرة في العراق ، كان أمراً
مخططاً له بإحكام ، من قبل الغزاة
الأمريكيين وعملائهم الصغار ، فقد
تحولت المواقع الجامعية إلى مواطئ
طيعة للمحتلين ، الذين عسكروا
فيها ، بعد أن حلوا مجالس
الجامعات ، وعبثوا بالسياقات
القانونية والتنظيمية ، وجاءوا
بأناس جهلاء عن طريق انتخابات
صوريه لم تراعِ المستوى العلمي (
المراتب العلمية ) لضمان تمشية
القبول الوظيفي لضعاف النفوس
والطاقات وتنصيب عملائهم في
مسؤوليات الرئاسة والعمادات ، وقد
أغدقوا عليهم بكارتونات من
الدولارات الجديدة الطبعات ،
وبدون حسابات ولا مراجعة ولا
تدقيق ، وقالوا لهؤلاء المسؤولين
الجدد: اصرفوا هذه الأموال سريعا
بطريقتكم الخاصة ، وبدون لجان
مشتريات بحسب الحاجة الملحة
والضرورية ...! ولكم أن تتوقعوا
ماذا فعل هؤلاء اللصوص بكل تلك
الدولارات .؟
فقد حولوها إلى الجيوب الخاصة ،
وشراء الشقق والبيوت ، وصنع
العصابات والميليشيات .
وأدى ذلك كله ، إلى انحراف هؤلاء
الجهلة فوق انحراف ذمتهم المالية
وخيانتهم للأمانات ، إلى انحرافهم
عن التقاليد الجامعية وأخلاقيات
العمل الجامعي، وتحولوا إلى
مخربين محترفين في تحجيم دور
العلم والبحث العلمي وإصابة
العملية التعليمية بالشلل والعقم
والتراجع ، وبعض الأمثلة في هذا
المجال ، ربما تكون شاهدة على فشل
حالة التعليم الجامعي في عراق
الإحلال ، وينبغي على مدوني
التاريخ أن يقفوا عند هذه الناحية
المهمة من نواحي سقوط العقل
التعليمي في العراق ، خلال هذه
الحقبة الصعبة من تاريخ الوطن
والمجتمع والدولة :
فقد حدثني بعض الزملاء من العراق
، عما جرى في جامعة بغداد
والمستنصرية ، وهما من الجامعات
العريقة بتقاليدها وسمعتها ،
بأنهما أصبحتا مرتعاً للمليشيات
الطائفية ، التي مارست القتل
والنهب والسلب والحرق والتدمير
والإقصاء والتهديد والوعيد
والتدخل في تعيين العمداء ورؤساء
الأقسام ، دون الأخذ باعتبارات
المرتبة العلمية أو مبررات الخبرة
المهنية ، وإنما طبقا للأجندات
المحاصصية والعصابات والميليشيات
، وميزان مصالحها السياسية الضيقة
، التي باركها الاحتلال .
وهذا الواقع المؤلم ، وما صحبه من
تصفيات مجهولة للعقول الأكاديمية
بشكل متواصل لا ينقطع ، هو الذي
حدا بكثير من الأساتذة المرموقين
والعلماء المعروفين ، إلى الهرب
خارج القطر وترك الجامعة ، ومن
بقي منهم اليوم ، فهو يفكر كيف
يحمي نفسه اكثر مما يفكر في
مواصلة عطائه العلمي وحياته
المهنية ، أو الانخراط ببحوثه
العلمية ، حتى تحولت هاتان
الجامعتان إلى ملتقىً لأهل
العمائم وأفراخهم ، وإلى فرجة
ساخرة لممارسة الطقوس الدينية
الطائفية والحزبية ، وهذا بكل
تأكيد شيء محزن ومرير على قيمة
العلم وأسسه العلمية المطلوبة .
كما وحدثني زميل آخر من جامعة
البصرة العريقة بتقاليدها العلمية
والإدارية ، بأنها قد أصبحت اليوم
موقعا للصراعات الميليشياوية ،
ووكراً للنهب المنظم ولتصفية
الحسابات السياسية ، ويعاني فيها
الأساتذة الجيدون من صراعات مع
مجاميع التدريسيين الجدد -
المتسلقين المدعومين ميليشياويا
وحزبيا ، ممن يسعون إلى تخطي كل
سياقات العقل العلمي وضوابط
الالتزام الأخلاقي بسطوة العلم ،
ليصبحوا قادة ورؤساء غير مستحقين
للمناصب الجامعية ، في غمرة
الاحتلال وتهاوي القيم والأخلاق
والإخلاص للوطن ، والأساتذة
الجيدون يقبعون في سبات من الضياع
والعزلة والشعور بالانكسار وعدم
الاحترام ، ومن بقي منهم ، لا حول
ولا قوه لهم ، ويعانون من ضغط
الأقوياء المرتزقة والطارئين ضد
عملية تطوير العلم والتعليم ، وما
عليهم إلا أن يكونوا صامتين أو
منصاعين في تنفيذ ما يطلبه منهم ،
أولئك المرتزقة الضالين
والهامشيين الطائفيين ، وهذا
الأمر ينطبق على كل الجامعات في
المناطق الجنوبية ، التي باتت
تتبع الجهات والتجمعات والأحزاب ،
التي لا تمت للوطن بأية بادرة خير
أو وسيلة .
أما في مناطق الوسط والشمال ،
فإنَّ جامعة الانبار ، حدّث ولا
حرج ، وقل عنها ما تشاء ، فقد
حدثني كثير ممن غادر عنها ، أو
ترك الانتساب إليها ، من أن هذه
الجامعة ،التي مضى على تأسيسها
عشرون عاماً ، قد أصبحت في ظل
الاحتلال ، جامعة تلعب في ساحتها
عدة قوى للتخريب بماركة مسجلة
تشير إلى دلالة الأمريكان
وأذنابهم ، وهذه القوى هي :
1- الحزب الإسلامي ، الذي لا
يختلف عن حزب الدعوة أو حزب
الثورة الإسلامية الطباطبائية من
حيث اللهاث وراء المناصب الإدارية
والمراكز العلمية ، حيث أسهم هذا
الحزب في تنصيب قيادات ، اشتهرت
بالسرقة وعمادات لديها اليوم شقق
وفلل في سوريا وبلدان أخرى .
2- الميليشيات الصحووية
والعشائرية ، التي صحوتها مخصصه
لحماية الأمريكان وصيانة النهب
والسلب ، والتي أصبحت تصول وتجول
في داخل أروقة الجامعة ، بعد أن
نجحت في عقد صفقة مع الحزب
الإسلامي ، بإسناد مناصب الرئاسة
مؤخراً بطريقة عشائرية ومنحصرة
بأتباع الهايس ممثل حرامي العراق
أحمد الجلبي ، إلى الحد الذي
أصبحت فيه العشيرة تتدخل في مسار
الترقيات والامتحانات والعقوبات
والمقاولات وسرقة الموارد لصالح
الصحوة ومن خلال التهديدات
الميليشياوية والسلاح ، التي
أصبحت فعلا يوميا معروفا في هذه
الجامعة .
ونفس الشيء قد ينطبق على جامعات
المحافظات في ديالى وصلاح الدين
وكركوك والموصل ، وبابل، حيث
أصبحت العملية التعليمية ، تحت
رحمة القوى العشائرية ورؤية
الأحزاب الشوفينية الضيقة ، التي
حشرت أنوفها في هذا المجال ،
استغلالا لمواقف سياسية عقيمة ،
وانتهازا للضعف الكبير في السلطة
المركزية والوزارية ، فيا للهول
من هذه التدخلات العشائرية
وتقاليدها المنفلتة ، التي مرغت
السمعة التعليمية للجامعات
العراقية ، وجعلتها مندرجة طبقا
لرؤية العوائل والأسماء المتنفذة
، لم يعهدها العراق من قبل .
أما جامعات المنطقة الشمالية ،
فهذه لبست الثوب الفاقد للشخصية ،
وجنحت وراء التدخلات العقلية
الموسادية في وضع مناهجها وطرائق
تدريسها ، وفي عمليات التدريب
وتأهيل الكوادر ، مستغلة أحلام
الانفصالية الموعودة عند قادتها
الداعين لها ، كما تجري على لسان
الطلباني والبرزاني ، الذين يكنون
إعجابهم بإسرائيل ويرتبطان بها
بعلاقات مشبوهة ، أسهمت في تقويض
الواقع العربي وقوة اللسان العربي
في المنطقة الشمالية ، وحولت
الجامعات الكردية إلى بؤر صارخة
لمحاربة الوطنيين العراقيين
وتكسير تطلعاتهم ، من خلال قوى
البيشمركة ومرتزقة الأحزاب
الخائنة للتعليم الوطني الجامعي
العراقي .
ونتيجة لكل ما تقدم فقد انهارت
المسيرة الجامعية انهيارا محزناً
، ومن أبرز معالم ذلك الانهيار
تمثل في الآتي من المؤشرات :
1- شهدت الجامعات العراقية حركه
كبيره من الترقيات العلمية
الباطلة ، فنجد أن أعداد الذين
يحملون مرتبة الأستاذية ومرتبة
الأستاذ المساعد ، قد تضاعفت بشكل
كبير ، وهذا آمر جيد إذا كانت
لجان الترقيات تعمل بنزاهة وأمانة
علمية وعدالة موضوعية ، ولكن
الأمر كان بعكس ذلك ، لان جميع
المعلومات والشواهد والحالات ،
تشير إلى أن لجان الترقيات
المركزية في الجامعات ، أصبحت
لجان هزيلة ومخترقة وتفشي أسماء
المحكمين والخبراء خلافا
للتعليمات الموصية بالسرية ،
بدليل تدخل أصحاب النفوذ والقوة
للتلاعب فيها حسب المصالح
السياسية ، وإن خبراء الترقيات في
الجامعات العربية ، باتوا يتذمرون
من متابعة أصحاب الترقيات
وتوسطانهم المريبة لهم ، لغرض
تمشية ترقياتهم على بحوثهم
الضعيفة ، فما بالك بالخبراء في
العراق والذين وصل الآمر بهم إلى
التهديد والتحذير في حاله عدم
تمشية ترقيات بعض الأساتذة ، وهذا
الآمر حدث وبشكل مستمر في المرحلة
الحالية ، وتحت فترات المسئولية
لرؤساء الجامعات الجدد ، بوصفها (
الفترة الضبابية ) لنهاية معايير
العلم والتعليم .
2- عدم وجود آي مفهوم للحرم
الجامعي ، إذْ أصبحت الجامعات
مرتعا لهمرات المحتلين وجنود
الغزاة ، وللمليشيات ولرجال الدين
والأحزاب والمسلحين واصبح
التدريسيون مهددين حتى في داخل
القاعات الدراسية ، وهذا ما لم
يوجد ولم يحدث في أية جامعه في
العالم .
3- تدهور المستوى العلمي في
الدراسات العليا ، وذلك بسبب عدم
وجود معايير محدده للقبول ،
ونتيجة للتدخلات الحاصلة في شؤون
لجان الدراسات العليا ، من قبل
أناس جهلاء وعدم وجود الخبر لدى
كثير من رؤساء الأقسام العلمية ،
الذين هم غير مؤهلين علميا والذين
جاءوا بفعل التدخل من خارج
الجامعة ليحتلوا تلك المناصب .
4 – فقدان معايير النزاهة وشرف
الأداء السليم ، سواء في نتائج
الامتحانات النهائية ، أو في
التعيينات الجديدة ، أو في توزيع
المناصب والمراكز الإدارية
والقيادية ، وإلإيفادات العلمية ،
وإحالة عطاءات عقود المشاريع
للمقاولين ، ذلك لأن المعايير
أصبحت بيد الرئيس الفاسد وعصابته
الفاسدة التي أوجدها لخدمته في
مركز الرئاسة من مساعد ومدراء
آخرين وعمداء مشكوك في نزاهتهم ،
وهم وحدهم المتحكمون في النشاطات
الجامعية ، لما يصب في فائدتهم
ومصالحهم الخاصة فقط .
فمن ياترى ينقذ جامعات العراق من
جحيمها ومحنتها .؟
وكيف يمكن فعل ذلك ،ما لم يتحرك
العلماء والمفكرون لرفض الاحتلال
ورفض الانتهازيين الذين خرجوا من
تحت وصايتهم ، ليكونوا مطاعين
مفسدين في غرق سفينة العلم
والتعليم ، هكذا بشكل مدمر أساء
للمجتمع العراقي أولاً، كما أساء
لمطالب تقدم وتطوير عجلة الجامعات
في العراق . ؟
|