لم تكن اليافطة التي علقها أهل الفلوجة على مشارف مدينتهم الأبية أولى أيام الاحتلال والتي حملت عبارة ( الفلوجة مقبرة الأمريكان ) مجرد كلام لا يعبر عن واقع أو تاريخ ومستقبل، بل كانت إيذانا بملاحم سطرها أبناء هذه المدينة العصية على المحتلين وأعوانهم، وبداية لتاريخ سيتذكره كل جندي أجنبي وطأت أقدامه هذه الأرض المحرمة. الحديث عن الفلوجة ليس كالحديث عن أية مدينة عراقية أخرى، ليس كالأنبار أو بيجي أو الموصل، فتلك مدينة كانت أول المستقبلين للمحتل الأمريكي بما لم يتوقعه في أسوأ كوابيسه، فكانت معركة الفلوجة الأولى درسا لم ولن ينساه مخططو ومنفذو احتلال العراق، عندما فشلت حشود المحتلين في اختراق بوابات مدينة المساجد في عام الاحتلال الأول، فأضحت منذ ذلك الحين الشغل الشاغل لمن دمر العراق فيما بعد. بعد عام من معركة الفلوجة الأولى قرر الأمريكان الدخول في معركة ثانية وفي ذات المدينة، لكن هذه المرة كانت مختلفة، فقد أفرغوا فيها كل الأسلحة المحرمة دوليا وباعتراف المنظمات الإنسانية والحقوقية حول العالم، فهجروا وقتلوا ودمروا انتقاما لقتلاهم في معركتهم الأولى، ولازلن نساء الفلوجة يلدن أطفالا مشوهين بلا عيون ولا أعضاء بشرية، وتحت سمع ونظر العالم صاحب الإنسانية الانتقائية، لكن الفلوجة أبت إلا أن تكون الغصة في أفواههم لحد يومنا هذا. تأتي معركة الفلوجة الثالثة بعد سنين من خروج الغازي الأمريكي وتسليمه زمام الأمور للمحتل الإيراني ليلعب ذات الدور بل وأبشع، فتعاضد الاحتلالان ليوجها ضربتهما الثالثة لهذه المدينة الصامدة، فاستلمت أمريكا وتحالفها الدولي السماء بينما استلمت إيران الأرض، وسخروا لهذه المعركة كل وسائل الدعم العسكري والاستخباري والإعلامي لتركيع مدينة صغيرة بحجمها كبيرة بمقاومتها، وحشدوا لها الحشود، وعملوا باهلها تقتيلا وتعذيبا وتهجيرا، كما فعلوا أول مرة. لقد وقع كثيرون في خطأ التركيز على تحليل المعركة عسكريا دون البحث في الجوانب المعنوية لهذه المدينة الصابرة، وبحثوا في أسباب استهداف الفلوجة اعتمادا على مفاهيم محاربة الإرهاب المطروحة عالميا دون الأخذ بنظر الاعتبار تطلعات شعب يريد أن يعيش بكرامة، ويمكنه فعل أي شيء من أجل أن يصون تاريخه بغض النظر عن الثمن الذي يمكن دفعه، حتى لو كان الثمن أن يكونوا إرهابيين بنظر العالم. لقد أستهدف الأمريكان الفلوجة في معركتهم الأولى بداعي وجود المقاومة العراقية التي أقضت مضاجعهم، ثم كانت المعركة الثانية بسبب وجود القاعدة فيها، وبوضوح تام كانت الثالثة بسبب تنظيم الدولة الإسلامية الذي وجد في عدد من مناطق غرب العراق الحاضنة لتوفير الدعم اللوجستي والبشري واستغلال الاستهداف الطائفي الممنهج والقتل والتعذيب المبرمج من قبل حكومات الاحتلال المتعاقبة. ختاما نقول أن معركة الفلوجة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولن تهدأ المعارك طالما هناك شعب يعاني الظلم والجور والجوع والقتل والتهجير، ويبقى الجميع بانتظار المعركة الفاصلة بين الخير والشر مهما تعددت فصولها واختلفت سيناريوهاتها، ومهما كانت نتائج معركة الفلوجة فإنها ستبقى عنوانا لمدينة قارعت المحتلين في حقبة سيتحدث عنها التاريخ مطولا، وستبقى الفلوجة أيقونة الشعوب المقاومة، وشعب تحمل ظلم العالم وصمته صابرا محتسبا لله.